ثقافتنا برؤية جديدة
لم أنقطع خلال هذه الأعوام التي انقضت من السبعينيات، عن محاولة النظر إلى مستقبل الثقافة العربية: كيف يكون؟ وإنه لَسؤالٌ واردٌ ومُلِحٌّ، لا بالنسبة للأمة العربية وحدها، بل هو سؤال واردٌ وملحٌّ في كل البلاد الأخرى، ذات الحضارة القديمة، والتي شهدت في تاريخها عظمةً ومجدًا في ظل حضاراتها تلك، ثُمَّ ما هو إلا أن دار الزمان دورته، فإذا للدنيا حضارةٌ جديدة تقوم على أُسسٍ أخرى، غير الأُسس التي قامت عليها تلك الحضارات، فماذا نحن صانعون؟ إن بين أيدينا، وفي شِعاب عقولنا، وشَغاف قلوبنا، تُراثًا من عقيدة ولغة وشعر وموسيقى وأدب وعمارة ونظمٍ اجتماعية للأسرة ولِمَا هو أوسع حدودًا من الأُسرة وغير ذلك من جوانب الحياة المتعددة، ولكننا في الوقت نفسه مواجَهون بحضارةٍ عصريةٍ جديدة، ما تَنفكُّ تفتح علينا أبوابنا ونوافذنا، أو نفتح عليها نحن أبوابها ونوافذها لتدخل ساحتنا. ولو كان الوضع الأصيل المُستقِر الموروث، على توافُقٍ تام مع ما يتسلل إلينا من حضارة العصر خلال النوافذ والأبواب، لما كان هناك إشكالٌ يستحق النظر، لكنهما ليسا دائمًا على مثل هذا التوافُق التام، مما يدعونا إلى التساؤل مرغَمين لا مُخيَّرِين: ماذا نحن صانعون في الحالات التي يكون فيها شيءٌ من التنافُر بين قديمنا وجديد العصر الذي تُحيط بنا مُؤثِّراته وعوامله؟
ونظرتُ إلى مسيرة حياتنا الثقافية إبَّان هذا القرن العشرين منذ أَوَّله، لأرى كيف سارت بنا تلك الحياة خلال ثلاثة أرباع القرن، لعل ذلك بِذاته يُشير إلى المستقبل الذي نحن صائرون إليه. وأخذتُ أُنَقِّل نظري عبر هذه الفترة، واقفًا عند كل عُشَارٍ من السنين، فإذا بي أَلمَح خطواتٍ مُطَّردةً تسير كلها قُدُمًا، وكأنها تستهدف غايةً مقصورة.
ففي عَقد العشرة الأُولى من هذا القرن، كان هنالك الإمام محمد عبده في أواخر أعوام حياته، وكان معه لطفي السيد، وقاسم أمين، ومصطفى كامل. فهل يمكن لعين الرائي أن تخطئ نقطة الالتقاء، التي اجتمع عندها هؤلاء جميعًا، على اختلاف نزعاتهم؟ ألا نقول، ونحن مطمئنون إلى صواب ما نقوله، إنهم جميعًا كانوا يستهدفون الحرية، كلٌّ منهم يستهدفها من أحد جوانبها؟ كانوا كلهم رُسُلَ ثقافةٍ جديدة، ولكن كل واحدٍ منهم التمس لثقافته الجديدة وجهًا وطريقًا، غير الوجه والطريق اللذَين التمسهما الآخرون: كان الإمام محمد عبده يريد للثقافة الجديدة أن تكون ضربًا من الإحياء الديني على ضوء العلم الجديد؛ بحيث يبدو إسلام المسلم متَّسقًا أتمَّ اتساقٍ مع النظرة العلمية الوافدة إلينا من حضارة العصر، والتي لعلها أن تكون أهم ما تحمله إلينا الحضارة الجديدة؛ فالحرية التي تتحقق لنا عن هذا الطريق الذي سلكه محمد عبده، هي في صميمها تحررٌ من خُرافةٍ وجهل، لو أزلناهما عن إسلامنا، ظهر هذا الإسلام بوجهه الصحيح، وهو وجهٌ لا يتنافى مع لُبِّ الحضارة العصرية، الذي هو — كما قلنا — تقدُّمٌ في مجال العلوم.
وكانت الحرية التي أرادها لطفي السيد، هي حرية العقل وما تُؤدِّي إليه من نتائج؛ فلا قيد على الفكر إلا ما يقتضيه منطق العقل. وكانت الحرية التي غَلبَت على مصطفى كامل، حريةً سياسيةً من المستعمر الذي احتل بلادنا. وأمَّا الحرية التي عمِل على تحقيقها قاسم أمين، فقد كادت تنحصر في مجالٍ اجتماعيٍّ واحد، هو تحرُّر المرأة من حجابها، وبالتالي تَحرُّرها من أغلالها الأخرى.
وجاء العَقد الثاني من أعوام القرن العشرين، فكان من أبرز معالمه الثقافية أن وُلِدَت القصة بمعناها الغربي الجديد، على يدَي الدكتور هيكل، ووُلِدَ إلى جوارها ميزانٌ جديد لِشِعرٍ جديد، على أيدي العقاد وزملائه، وبين هاتين الولادتَين لما هو جديدٌ في الأدب والشعر، عكف لطفي السيد على ترجمة الفلسفة الأرسطية إلى العربية؛ فماذا تعني هذه الجوانب الثلاثة مأخوذةً معًا، إلا أننا قد فتحنا بأيدينا أبوابنا لِنتلَقَّى حضارة الغرب — قديمها اليوناني، وجديدها العصري — على حَدٍّ سواء؟ فإذا أضفنا هذا الخط الذي ظَهرَت معالمه واضحةً في العَقد الثاني، إلى الخط الذي كان قد برز في العَقد الأول من السنين، رأينا كيف أَخذَت قيمتان من قيم حياتنا الجديدة، تتضافران معًا، هما الحرية من جهة، وقَبول القوالب الأدبية والفكرية من الغرب، من جهةٍ أخرى.
وانتقلنا إلى العقد الثالث، وهو سنوات العشرينيات، التي كانت بحقٍّ عصر تنويرٍ شامل؛ فقد رأينا الكُتَّاب في تلك الفترة، لا يقفون عند مجرَّد الكتابة كما اتفق، بل كان كل كاتبٍ منهم يضرب بقلمه على الورق فيشق طريقًا جديدًا: حرية الشاعر في تصوير ذاته المُقرِّرة المُستقِلة، وكان ذلك عند العقاد في شعره؛ وحرية المواطن في اختيار حُكَّامه، وكان ذلك عند الدكتور هيكل وعند علي عبد الرزاق، كلٌّ منهما بطريقته؛ وحرية الناقد الأدبي في النظر إلى النصوص القديمة، وكان ذلك عند طه حسين؛ وحرية الموسيقي وتحرُّره من تقليد الطرب، وكان ذلك عند سيد درويش؛ وحرية العقيدة بأوسعِ معانيها، وكان ذلك عند سلامة موسى. هكذا جاءت امتدادات الدعوة إلى الحرية، لتنشُر ضلوعها، فتشمل رُقعة الحياة الفكرية والذوقية، ثُمَّ جاءت معها امتداداتٌ أخرى لنقل القوالب الأدبية والفنية عن الغرب، مع ملء هذه القوالب المستعارة بحياتنا نحن، فكان أن بدأ شوقي المسرحية الشعرية، وبدأ توفيق الحكيم المسرحية النثرية، من حيث هي إبداعٌ أدبي، لا يتوقف على تجسيده فوق المسرح.
وجاءت الثلاثينيات بعد ذلك، لِتُواصل مسيرة العشرينيات في توسيع رقعة الأساسَين اللذَين أُرسيت لهما الدعائم منذ العُشار الأول، وهما أساس الحرية من ناحية، وأساس التمكين للنظرة العقلية من ناحيةٍ أخرى. على أن نفهم هذا التمكين للنظرة العقلية، مكتسيًا بلواء الحرية، فَهْمًا يشمل قَبولنا للأشكال الثقافية الغربية، ما دمنا نحرص على تضمينها حياةً عربيةً أو مصريةً خاصةً، لكننا في الثلاثينيات أخذتنا الخشيةُ أن يكون قَبولنا للقوالب الغربية عاملًا على محو الشخصية الموروثة، فانتبهنا إلى إحياء التراث، وإلى الإشادة ببطولات الماضي، على نطاقٍ واسع؛ حتى لم يعد كاتبٌ واحدٌ من كُتَّابنا إلا وأخرج الكتب في هذه الإشادة أو في ذلك الإحياء.
فلمَّا بَلغَت الحرب العالمية الثانية نهايتها في وسط الأربعينيات، كانت كل تلك العوامل السابقة، قد أخذت تتفاعل، فبدت في الأفق إرهاصاتٌ قوية لظهور ثقافةٍ جديدة، تتسم بالإيجابية، وبالمحلية، وبلمسة الحياة الواقعة، وبالغَوص في أعماق النفس المصرية، وأعني بها ثقافتنا خلال الخمسينيات والستينيات، بوجهٍ عام.
فإذا عُدتُ بعد هذا العرض السريع لمسيرتنا الثقافية خلال ثلاثة أرباع القرن، وسألتُ سؤالي الذي بدأتُ به، وهو: على أي صورةٍ سيكون المستقبل في حياتنا الثقافية؟ وجدتُ الجواب، وهو: على غِرار الخُطى التي خطوناها، مُعتمدِين على ركيزتَين؛ هما: مزيدٌ مُطَّرد من الحرية، وثقةٌ بالعقل وبالعلم تزداد مع السنين.