واجب المثقفين
كان أبو العلاء المعري — كما قال عن نفسه — رهين مِحبَسَين؛ إذ كان رهينَ ظلامٍ فرضه عليه كف البصر، كما كان في الوقت نفسه، رهينَ داره لا يغادرها. وكان وهو مستترٌ وراء ذَينِك المِحبَسَين، ينعم بينه وبين نفسه بثقافةٍ عريضة عميقة؛ فكان في مستطاعه — لو أراد — أن يقنع بذلك العالم الفسيح الآفاق، الذي يستعيض به عن رؤية البصر ومخالطة الناس، لكنه مع ذلك أحس في فؤاده قلقًا لا يتركه ليستريح إلى ثقافته تلك، العريضة العميقة الفسيحة الآفاق، فكأنما كان يخاطب نفسه — في لحظة من لحظات قلقه — حين أنشد بيتَيه من الشعر، اللذَين يقول فيهما:
لا، لم يعُد أبو العلاء في تلك اللحظة راضيًا بانفراد، حتى لو كان انفراده ذاك في جنة الخُلد، لا انفرادًا في مِحبَسَيه. وماذا تجديه سحائب الغيث مهما غَزُرَ عطاؤها، إذا لم يكن ذلك الغيث قسمةً بينه وبين الناس؟! لقد أراد يونس — عليه السلام — أن ينجو بنفسه من عبء الواجب الاجتماعي الذي أُلقيَ عليه، ففرَّ إلى شاطئ البحر؛ حيث وجد سفينة على أُهبة الإقلاع، واستقلها مع المسافرين إلى حيث لا يدري، وانقَلبَت السفينة بمُسافرِيها، وكان أن ابتلعه حوت؛ فكأنما أرادت له مشيئة الله أن تذهب به العزلة التي أرادها لنفسه، إلى آخر مداها. وماذا تكون العزلة في أقصى درجاتها، إن لم تكن هي هذه الصورة الغريبة الفريدة، التي أوى بها يونُسُ إلى جوف الحوت، لا يرى من الدنيا الخارجية أرضًا ولا بحرًا ولا سماءً؟! فما إن ألقى الحوتُ بحِمْله على شاطئ البحر، حتى فَقِه يونس معنى الرسالة التي أُريد له أن يُؤدِّيها، وهي أن يعود إلى الناس ليُسْهم في حياتهم وفي إصلاحها.
كانت هذه الصور وأمثالها، هي التي تراءت لي ذات صباحٍ بارد في جوف الشتاء، وكنتُ عندئذٍ في مكتبةٍ عامة، أستدفئ بدفئها، وأغتذي من كُتبها، فأقرأ وأكتب، ما حَلَتْ لي القراءة، وما وسعتني الكتابة، لكنَّ صوتًا فاجأني من صميم نفسي، يسألني: ثُمَّ ماذا؟ إنك بكل هذه القراءة والكتابة، إنما تُثقِّف نفسك المفردة، لكنك لا تُؤدِّي واجب المُثقَّفِين!
ليست الثقافة الصحيحة هي التحصيل الأكاديمي للعلم، مهما بلغ مداه، بل لا بُدَّ أن يُضاف إلى ذلك التحصيل عمليةٌ هاضمةٌ، تُبلور المقروء في قيمٍ جديدة تُنْشَر في الناس. إنه لا يكفي أن يُلمَّ المثقف بعناصر الحياة من حوله، إلمامًا باردًا لا حياة فيه، بل لا بُدَّ له إلى جانب ذلك، أن يَنْفُذَ برؤيته الجديدة، إلى حيث تكمُن المُعوِّقات في حياة الناس، فيُخرجها لهم ويُلقي عليها الأضواء، ليراها كل ذي بصر، وذلك هو الالتزام الذي لا مناص للمُثقَّفِين من الاضطلاع به. إنه التزامٌ بالحق، يرونه ثُمَّ يُعلنونه.
إن أحداث الحياة كما تقع، قد يراها الجميع على حدٍّ سواء، لكن الذين يتفاوتون في رؤيته، هو امتدادات تلك الأحداث؛ فإلى أي شيء تؤدي تلك الوقائع التي تحيط بنا؟ ما هي صورة المستقبل الذي تتمخض عنه اللحظة الحاضرة؟ هذا هو نوع الأسئلة، التي قد لا يستطيع الجواب عنها إلا من أَرْهَفَت الثقافة قدرته على الإدراك، وليس هو من قبيل الإدراك بالغيب المجهول، بل هو إدراكٌ للغائب المُستتِر وراء الحاضر كما تراه العين وتسمعه الأذن.
ومثل هذا التنوير، الذي يُلقي الأضواء على خفايا اللحظة الحاضرة، وما عسى أن يتولَّد عنها، هو واجبٌ محتومٌ على المثقَّفِين، وهو الواجب التي تصدَّت له الفلسفة في شتى عصورها. وعندما ننادي بأن يخرج فلاسفة الجامعة من عزلتهم الفكرية، إلى حيث يُشاركون في عملية التنوير، فإنما نريد لهم — بعبارةٍ أخرى — أن يُعمِّقوا شعور الناس بمشكلاتهم الفكرية نحو توجه خاص؛ ففي مرحلة التحوُّل الاجتماعي التي تَعبُرها الأمة من وجهٍ حضاري إلى وجهٍ حضاري آخر، ترتجَّ القيم، وتَنبهِم الرؤية ويختلط أمام الأعين طريق الصواب وطريق الخطأ؛ وعندئذٍ تدعو ضرورة الموقف أن يُشعِل المُثقَّفون مصابيحهم التي في أيديهم، لتتحول معارفهم النظرية إلى هدايةٍ عملية.
ماذا نعني عندما نتحدث عما نسميه بثقافتنا القومية؟ إننا لا نعني بهذه العبارة إلا حاصل جَمعِ المعارف والمهارات التي حصَّلها الأفراد. ولو اقتصر كل فردٍ على نفسه هو، فيما قد حصَّله، لكان هنالك أفرادٌ مثقفون، ولكن ليس هنالك ثقافةٌ قومية. فإذا عرفنا أن العالم الخارجي لا يشعر بالوجود الحضاري لأمةٍ من الأمم، إلا عن طريق ثقافتها القومية، لا عن طريق الثقافات الفردية المتناثرة، أدركنا كم هو ضروريٌّ ومحتوم أن تنصهر الروافد المُتفرِّقة لتجتمع كلها في تيارٍ واحد. ولا يَجمَعُ تلك الروافدَ المُتفرِّقة في تيارٍ قوي عميق، إلا أن تجتمع معًا على مشكلات الحياة العامة، تُحلِّلها، وتُعلِّلها، وتَرسمُ لها طريقة الحل.
الفرد المُثقَّف الواحد في عزلته، قد يُدرك ذات نفسه، لكننا إذا أردنا للأمة في مجموعها أن تُدرك ذاتها، وتشعر بحقيقة نفسها، فلا يتحقق لنا ذلك إلا حين تنصبُّ جهودُ المُثقَّفِين الأفراد، لتلتقي في نقطةٍ مشتركة. ولقد قيل إن هنالك جوانبَ ثلاثةً للأمة النابضة عروقُها بدم الحياة، وهي أن تشعر بذاتها أوَّلًا، وأن تُعبِّر عن ذاتها تلك ثانيًا، وأن تشعر هذه الذات بغيرها ثالثًا. وإذا كان هذا هكذا، فليس ثَمَّةَ أمةٌ شهدها التاريخ، قد حقَّقَت هذه الجوانب الثلاثة، بأوضحَ مما حقَّقَته منها الأمة الإسلامية في ازدهارها الحضاري؛ فقد تصَوَّرَت ذاتها أجلى ما يكون التصوُّر، ثُمَّ عبَّرت عن ذاتها أقوى ما يكون التعبير، ومَدَّت آفاقها لتصل إلى حضارات الآخرِين، أوسعَ ما يكون الامتداد. ويبقى على الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر، أن تصنع صنيع أسلافها.
تلك كانت سلسلة الخواطر في رأسي، وكيف تتابَعَت ذات لحظةٍ من أواخر الستينيات، فكانت أُولى ثمارها، محاولةً متواضعة دعوتُ بها إلى ما أسميتُه بتجديد الفكر العربي، ومُوجَزُهُ أن نتجانس مع حضارة العصر في علومها وتقنيَّاتها وكثيرٍ من نُظمها، فنقبلها عن طواعية ورضًى، بل نُسْهِمُ في تطويرها ونمائها، وأن نتجانس — في الوقت نفسه — مع أسلافنا في الوقفة الذوقية والخُلقية، ليكون لنا من هذَين العنصرَين، وجودٌ في الحاضر، وانتماءٌ في التاريخ.