موقفنا بين عصرين
لم تكن هذه اللحظة الأخيرة التي أتحدث عنه الآن، لحظةً قصيرة، ما جاءت إلا لتمضي، بل هي لحظةٌ استَغرقَت من حياتي الثقافية مرحلتها الأخيرة كُلَّها، التي لَبِثَت معي حتى اليوم، منذ عشر سنوات أو نحوها؛ فقد كنتُ قبل ذلك واحدًا من كثرةٍ كثيرة من المُثقَّفِين العرب، الذين فُتِحَت عيونهم منذ الطفولة وخلال الصبا، وانتهاءً بنضج الرجولة؛ فُتحت عيونهم طوال أعمارهم، على فكرٍ أوروبي، حتى سبقت إلى أوهامهم الظنون بأن أوروبا هي العالم كله، من مُبتدئِه إلى مُنتهاه، وبأن الفكر الأوروبي هو وحده الفكر الإنساني دون سواه. ولَبِثَت هذه هي حالي أعوامًا بعد أعوام، كان الفكر الأوروبي محور دراستي أيام التحصيل، ثُمَّ كان مدار عملي بعد ذلك. وأمَّا التراث العربي فلم تكن له في رأسي إلا أصداءٌ خافتةٌ جَمعها على مر الأيام، من القراءات الخاصة المبعثرة؛ ولذلك لم تكن لعصور ذلك التراث عندي صورٌ متكاملة؛ فقد أعلم شيئًا عن الجاحظ، وشيئًا عن المتنبي، وثالثًا عن ابن خلدون، لكنني لا أستطيع أن أضع هذه الأجزاء المُفكَّكة في تَسلسُل، يُبيِّن لي عن أي جزءٍ منها، متى كان وأين ولماذا؟
ثُمَّ سَنحَت لي تلك اللحظة المباركة، التي امتلأتُ فيها بالعزم المُصمِّم، على أن أتدارك ما فاتني، من الإلمام بتراثنا العظيم، ما وسِعَني ذلك، من جهدٍ محدود، وبقيةٍ من عمر، فأخذتُ أَنضَح مما حولي من ينابيعِ ذلك التراث نضحًا، ينتظمه المنهج حِينًا فيسير على هدى، ويَخبط خبط الجائع الملهوف حينًا آخر، فيخطف لقمةً من هنا ولقمةً من هناك. وكنتُ في كلتا الحالتَين أقرب شبهًا بمسافرٍ غريب، جاء إلى مدينةٍ لم يجُس خلالها من قبلُ، فتقع عيناه على ما تغفُل عنه أعين سكانها الأصليِّين؛ إذ أعين الناس كثيرًا ما تغفُل عن الشيء المألوف، إلى أن يجيء المسافر الغريب فيراه، ولكنني في الوقت نفسه كنت مُعرَّضًا للوقوع في أخطاء لا يقع فيها من يَألَف المكان ومحتواه.
ومع ذلك، فقد مضيتُ، تدفعني الرغبة الجامحة في أن أُكمِلَ نقصًا كان معيبًا في ثقافتي، كما هو — من غير شك — نقصٌ معيبٌ في ألوفٍ آخرِين ممن ساروا في نشأتهم الدراسية كما سِرْت. وما أكثر ما دُهِشت، عندما كنتُ ألاحظ لنفسي — فيما أقرأ — بعض الملاحظات، فأتحدَّث فيها مع زملائي من أهل الاختصاص العلمي في جوانب ذلك التراث، فإذا هم لم يلحظوا بسبب الإلف — ما لحَظتُ — فكان ذلك يزيدني رغبةً، ويزيدني جُرأةً، حتى انتهيتُ إلى محصول، رأيتُ من الإخلاص للتاريخ الفكري أن أعرضه على الناس، في كتبٍ ومقالات، تَلاحَق صدورها منذ ذلك الحين.
على أن كل قضيةٍ فكرية مما كان يَعرِض لي أثناء السير، سرعان ما كانت تُفجِّر معها قضيةً أخرى، ثُمَّ ثالثةً ورابعة؛ فمثلًا: كنت أتساءل — كلما مضيتُ في قراءتي — تُرى هل ينفعنا هذا الميراث فيما نحن فيه الآن؟ وإلى أي مدًى؟ ثُمَّ لا ألبَث أن أسأل نفسي قائلًا: وما هو على وجه الدقة هذا الذي نحياه الآن؟ ما هي العناصر الأساسية التي يقوم عليها عصرنا، لنكون على بيِّنةٍ منها، قبل أن نُجيب عن سؤالٍ يسألنا: أيصلُح ميراثنا الفكري لعصرنا الحاضر أم لا يصلُح؟ حتى إذا ما تكامَلَت لديَّ جوانبُ من الحياة المعاصرة، تكفي للمقارنة وللحكم، رأيتُ المشكلةَ الأساسيةَ وقد تَبلوَرَت أمامي؛ حيث ما زالت قائمةً إلى يومنا هذا، تتحدانا جميعًا بالبحث والتفكير من أجل جوابٍ مُقنعٍ مفيد، وهي: كيف نمزج مزجًا طبيعيًّا حيًّا بين ذاتنا القومية ذات العناصر الموروثة، وبين الأركان الأساسية من حضارة العصر؟
ولم تكن هذه المشكلة مقصورةً علينا وحدنا، بل كانت مشكلةً شَغلَت طوائف المُفكِّرين والأُدباء، في سائر الأقطار ذوات الحضارات القديمة، كالهند والصين واليابان وأمريكا اللاتينية؛ ولذلك عنَّ لجماعةٍ من أهل الرأي في باكستان، أن يقيموا ندوةً ثقافيةً عالمية، يَدْعون إليها نَفرًا ممن يُمَثلون تلك الأقطار ذوات الحضارات القديمة، ليتدارسوا معًا عسى أن يصنعوا في موقفهم بين الحضارتَين. كان ذلك في سنة ١٩٦٥م أو نحوها، وكنتُ ممن سَعِدوا بالدعوة لحضور تلك الندوة التي انعَقدَت في مدينة لاهور بباكستان. وكان أهمَّ ما خَرجتُ به من الندوة، ليس هو حلًّا معيَّنًا بذاته تُحلُّ به المشكلة المعروضة، بل هو أن لتلك المشكلة الثقافية أهميةً خاصَّةً، تجعل لها — أو يجب أن تجعل لها — أولويةً على كل ما عداها في حياتنا الفكرية؛ لأن محاولة حلها، تَرسمُ أمامنا طريق السير كيف يكون، وإلى أي اتجاهٍ يميل.
إننا اليوم في مرحلة التحوُّل بين عصرَين. وإنها لبديهيةٌ واضحة، أن القيم والمعايير التي يقيس بها الناس أفكارهم وسلوكهم، لِيُميِّزوا فيها بين الصحيح والضال، لا بُدَّ أن يُصيبَها اهتزازُ وغموضٌ في مراحل التحول؛ إذ هي لا تستقر، ولا تتحدد معالمها، إلا حين تَطَّردُ أساليبُ الفكر وطرائقُ العيش. فإذا قال قائل، والناس في مرحلة التحوُّل، يجب التمسُّك بما كان سائدًا في العصور الماضية، كان بقوله هذا، بمثابة من يُنكر أننا نتحول من عصرٍ إلى عصر؛ لأنه يُريد للحاضر أن يكون امتدادًا للماضي بغير تفرقةٍ ولا تمييز. إنه لا مندوحة — لمن يجتاز مرحلة التحوُّل كالتي نجتازها — عن الاستجابة المُتوثِّبة السريعة لعوامل التغيُّر من حوله، وإلَّا أورد نفسه موارد الهلاك، إذا هو — في خِضَم التغيُّر الذي يحيط به — لجأ إلى قواعدَ سلوكية خُلِقَت لِتُجيب عن بواعثَ أخرى غير البواعث المؤثِّرة فيه الآن. وهل هُنالك ما هو أوضح من القول بأن حُكمنا على المستقبل بقواعد الماضي هو حُكْمٌ يفترض الثبات والاطِّراد في صورة الحياة، مع أن مثل هذا الثبات ليس له وجود؟
لكن هذه الضرورة الحتمية الموجبة لسرعة التغيُّر، لِنرُدَّ على العوامل الحضارية الجديدة بما يلائمها، لا بُدَّ أن تصاحبها ضرورةٌ حتميةٌ أخرى، تُوجبُ علينا أن تجيء ردودنا تلك التي نردُّ بها على العوامل الحضارية الجديدة، ردودًا متميزةً بالطابع الشخصي الأصيل، الذي لا نحاكي به أحدًا، وهي أصالةٌ لا تتوافر لنا، إلا عن طريق امتلائنا بروح تُراثنا؛ بحيث نحافظ على الموقف الذوقي الخاص، الذي عُرف به أسلافنا. أعني أن نحافظ على طرائق الحكم على الأشياء والمواقف، حكمًا أخلاقيًّا أو حكمًا إجماليًّا، لا نراعي فيه إلا وجهة النظر المأثورة عن تاريخنا الماضي. ولعل شيئًا كثيرًا جِدًّا من هذا الحكم الذوقي الأخلاقي، يُكتسَبُ عن طريق دوام اللغة العربية، بما تحويه في بطونها من أصولٍ ثقافيةٍ وفنية، كما يُكتسب عن طريق استمرارنا في إطارٍ تشريعيٍّ ثابت، على الأقل من جهة الأصول.
تلك كانت، هي وأمثالُها، إيحاءات اللحظة الخِصبة الفريدة، التي أخذني فيها العزمُ على أن أُكمل النقصَ من جوانب ثقافتي، فبدأتُ الغوصَ في بحر الثقافة العربية. فإذا لم أجد الفرصة سانحةً لما يُشبِه المعرفة الشاملة، والإلمام الكامل، فلا أقلَّ من أن أضيف إلى فكري إضافات، تُبرِّر أن أكون عربيًّا معاصرًا.