لكي يعتدل الميزان
قد يكون من أبرز المعالم التي تُميِّز ثقافة عصرنا، عندنا وعند غيرنا على حدٍّ سواء، ذلك التضخُّم، أو ربما كان أقرب إلى الصواب أن أقول ذلك التورُّم، الذي طرأ على نفوس الأفراد؛ بحيث أصبح شعور الفرد الواحد نحو نفسه، يميل إلى ابتلاع العالم كله في جوفه، إذا استطاع وبمقدار ما استطاع. ولعله شعورٌ أوحى به إلى إنسان هذا العصر، جبروت العلم والصناعة، الذي شعر الفرد الواحد بضآلته منسوبًا إليه، فبدل أن يتنفخ زهوًا لأنه هو صانع الجبروت، انكمَش إلى حد الفَناء أول الأمر؛ لأن كل فردٍ أخذ ينسب عظمة عصره إلى الآخرِين، ويتوهَّم في نفسه التفاهة وصِغر الحجم، لكنه لم يلبث أن نفَض عن نفسه هذا التخاذُل، ووثَب إلى النقيض الآخر، بأن بث في ضميره إيمانًا بذاته، يظن به أنه هو وحده في إحدى كفَّتَي الميزان، وسائر العالم في الكفَّة الأخرى. فجاء شعوره هذا ردًّا عنيفًا على قُوى عصره الجبارة، التي أرادت أن تهصره هصرًا تحت أثقالها.
وانعَكسَت ثورة الفرد النفسية هذه، في الفن المعاصر، وفي كثيرٍ من الأدب المعاصر، وفي بعض الحركات الاجتماعية. وإلَّا فلماذا نَشأَت مذاهب الفن التي تجيز أن يضع الفنان على اللوحة «طبيعة» من عنده هو، غاضًّا بصره عن الطبيعة الحقيقية الرابضة بجبالها وسهولها وبحارها هناك خارج نفسه؟ إنه فعل ذلك ليقول للدنيا من حوله: ها أنا ذا فلان الفرد الفريد المنفرد، الذي أرادت مكنات العصر أن تطحنه بعجلاتها. وهذه الوقفة الفردية نفسها قد انعكست كذلك بصورةٍ واضحة في بعض المذاهب الفلسفية في عصرنا، وفي مقدمتها مذهب الوجودية، الذي جعل الفرد سيد نفسه؛ فهو إنسانٌ حر بقَدْر ما يصنع هو لنفسه القرار، ثُمَّ يكون مسئولًا عنه، لا يتبع في ذلك أحدًا؛ لأنه بمقدار تبعيَّته يكون قد أهدر آدميَّته.
وأحسب أن هذه الثورة التي التَهبَت بها نفوس الأفراد، احتجاجًا على عجز الفرد الواحد وضعفه أمام القُوى الهائلة التي تُدير له حياته — عملًا وفرغًا — رضي بذلك أو كره. أقول إنني أحسب أن ثورة الفرد على عجزه وضعفه، ربما وجدناها منعكسة أيضًا في أفلام الفأر الصغير الذي أراد الفنَّان بها أن يكون النصر في النهاية دائمًا له، بغض النظر عن التفاوت البعيد بينه وبين العدو الذي يواجهه، قُطًّا ضخمًا أو سبعًا ضاريًا. ولعل القارئ قد لحظ كما لحظتُ أنا فيما نشهد من أفلامٍ وتمثيليات على الشاشة الصغيرة في بيوتنا، كيف يسهُل التنبُّؤ منذ البداية إذا ما كان في الأمر صراعٌ بين قوي وضعيف، بأن الغلبة في آخر الأمر ستكون للضعيف على القوي، لا لأن هذا هو دائمًا واقع الحياة، بل لأن ذلك هو ما أصبح كل فردٍ مِنَّا يتمناه.
ولستُ بذلك أزعم بأن تضخيم الأفراد لذواتهم هو شيءٌ وليد عصرنا وحده، لا لست أزعم ذلك؛ لأن هذا الميل نحو شعور الفرد بذاته، وبأهمية تلك الذات، حتى لَيتوهم أنه خُلق ليكون مركزًا للكون كله، هو جزء من فطرة الإنسان، وطريقته في وعيه بنفسه — أو هكذا أظن — لكن يبقى أن نسأل: «كيف» يُعبِّر الإنسان عن فطرته تلك في هذا العصر أو ذاك؟ فتقرير المرء لذاته ربما أكَّد صورة انتمائه لشيءٍ أكبر منه، كي يستمد منه القوة ويُضيفها إلى قوته، وكذلك ربما اتخذ صورة التمرُّد على كل ما هو أكبر منه، وهذه الصورة هي التي أزعم أنها من سمات هذا العصر ومن جوانب نقصه معًا. ويرد على خواطري في هذا السياق ما أورده فرويد في كتابه عن «الطوطم والمجرم» من تصوُّر الإنسان وهو لم يزل عُضوًا في القبيلة البدائية الأُولى، في فَجر البشرية. إنه إنما كان يتَّبِع مع سائر أفراد القبيلة، سيِّدًا متسلِّطًا غيورًا على ضخامة شخصيته من أي ظلٍّ لاعتداء يسلبه شيئًا من سلطانه، بما في ذلك نساء القبيلة اللائي لم يُرِد أن يشاركه فيهن تابعٌ من الأتباع، مع أن هؤلاء الأتباع هم في الأصل أبناؤه، فما كان من هؤلاء الأبناء إلا أن قتلوه ثُمَّ أكلوه. وجعل فرويد هذا التصوُّر (الذي يُقال إنه استمده من دارون) رمزًا يرمز به إلى عدة أمور في التركيب النفسي للإنسان؛ فهو رمزٌ يشير إلى نهاية نموذجٍ اجتماعيٍّ بدَأَت به البشرية، لتُجاوزه بعد ذلك إلى ما هو أرقى وأحفظ للفرد الواحد من الناس. وهو كذلك رمزٌ لانتقال القوة من السلف إلى الخلف، على أساس أن ابتلاع الأبناء لأبيهم من شأنه أن تسري القوة التي كانت له في شرايين الأبناء، فتُضاف قوته إلى قوتهم؛ أي إن هؤلاء الأبناء يُضيفون قوة ماضيهم إلى قوة حاضرهم في حياةٍ واحدة. ثُمَّ هو رمزٌ لازدواجية الشعور عند الإنسان؛ ففي كل إنسان يمتزج الحب بالكراهية إزاء الموضوع الواحد، ولقد أكل أبناء القبيلة الأولى أباهم، كراهيةً له في محوه لشخصياتهم، وحُبًّا لما يُمثِّله في حياتهم من قوة وسطوة.
إذن فالثورة التي تنفجر في ضمائر الأفراد، على كل ما يسلبهم تميُّز فردياتهم، هي شيءٌ قديم مع الفطرة، والذي يختلف مع العصور هو الطريقة التي تتم بها تلك الثورة، والذي يميزها في عصرنا، هو محاولة الفرد الثائر أن ينفلت من قبضة الكل الذي يحتويه. فانظر إلى أفرادٍ أرادوا في الماضي تقرير نواتهم، ماذا صنعوا تحقيقًا لتلك الإرادة، ثُمَّ انظر إلى أفرادٍ من عصرنا استهدفوا الغاية نفسها، ماذا يصنعون لتحقيقها.
فقد كان للرجل من المُتصوِّفة إذا تمرد على عصره نفيًا لذلك غاية، هي التجرُّد من الروابط التي تصله بما حوله من الدنيا ومتاعها، مجاهدًا للوصول إلى الحق سبحانه وتعالى، شهودًا، أو معرفةً، أو توحُّدًا. وإذن فالفردية الثائرة هنا، تَزيدها ثورتها تلك اقترابًا من الله جل وعلا. ولكن قارن هذه الصورة بالفردية الثائرة في عصرنا، تجد ثورتها تلك قد مالت بها نحو استقلالها حتى عن ربها وخالقها؛ ومِنْ ثَمَّ طغت على العصر موجة الإلحاد، التي هي الآن — مع سائر جوانب الثورة الفردانية — في سبيلها إلى الانحسار.
وخذ مقارنةً أخرى، وإن تكن ذات صلةٍ غير مباشرة بالمَثَل الذي أسلفناه، رجل الفن — في مختلف أشكال الفنون — إذا ما رفض عصرَه لأي سببٍ من الأسباب، ماذا كان يصنع تحقيقًا لفرديته الثائرة، وماذا هو صانعٌ الآن؟ كان المُصوِّر يُغرق نفسه إغراقًا في بيوت الله يصب فنونه على سقوفها وجدرانها، وكأنما هو يتعبد بمواهبه إلى باريه الذي وهبه تلك المواهب. وكان الشاعر ينظم غُر قصائده في مجد الله وملائكته ورسله. وهكذا جعل — الفنان الثائر على مجتمعه، العابد لربه — فنه في خدمة دينه. لكن قارن ذلك بما يصنعه فنان هذا العصر إذا امتَلأَت نفسه بالتمرُّد على عصره، تجده لا يقيم فنه إلا على نفسه هو، يسكبها ألوانًا على لوحته، أو ألفاظًا في قصيدته. ومن هنا لم يكن الفنان العابد في الماضي حريصًا على ذكر اسمه على نتاجه الفني. وأمَّا الفنان الثائر على عصرنا فيكاد يضع اسمه على نِتاجه قبل أن يكتمل له ذلك النتاج.
على أن رجال الأدب والفن لم يكونوا دائمًا في ثورة على مجتمعهم، بل إن كثرتهم كانت متوافقة مع محيطها، فإذا قال الشاعر شعرًا، جعله أقرب إلى صحيفة دفاع عن جماعته التي ينتمي إليها، مادحًا لرءوسها، مشيدًا بخصالها، هاجيًا من يناصبها العداء، كما فعل — مثلًا — جرير والفرزدق. وإنما ضربتُ بهما مثلًا، لحدوث حادثٍ في دنيا الشعر عندئذٍ يَلفِت النظر، وهو ظهور شاعرٍ عظيم، لكنه لم يُوجِّه شعره إلى مدح وهجاء وفخر بالقبيلة، بل وجَّهه إلى الشعور النقي الخالص بما انطبع به في بيئته، منزَّهًا عن أي غرض إلا غرض الشعر نفسه. فوا عجبًا! إنه لم يَلفِت أنظار نُقاد الشعر، ولا سرى في وجدان جمهور الشعر، وذلك هو «ذو الرمة». ولقد سأل ذو الرمة يومًا الفرزدق — وكان الفرزدق يكبره، لكنه عاصره في المرحلة الأخيرة من حياته — أقول إن ذا الرمة سأل الفرزدق يومًا، والدهشة تملؤه، عن السر الذي يكمن في قصوره عن أن يَعُدَّه نُقاد الشعر من فحول ذلك الفن، ليتساوى مع الفرزدق نفسه ومع جرير. فأجابه الفرزدق بقول معناه أنه لم يظفر بتقدير النقاد؛ لأنه لم يستخدم شعره في مدح أو في هجاء، أو في فخر؛ أي إن ذا الرمة أراد أن يكون بشعره «فردًا» أكثر منه عُضوًا في جماعة، فدفع الثمن إهمالًا له من تلك الجماعة.
نعم، لم يكن رجال الأدب والفن يُثبتون فردياتهم دائمًا بالخروج على ما هو أوسع من أشخاصهم المفردة، كالعقيدة الدينية، والانتماء إلى المجتمع الذي يحتويه، بل كثيرًا ما وجدوا أن وسيلتهم إلى ذلك الإثبات هو خدمة الغطاء الذي يحميهم — من دين ومجتمع. أمَّا في عصرنا فقد بات الأغلب على من أراد إثبات وجوده من الأفراد، أن يلجأ في ذلك إلى شذوذٍ يخرج به على المحيط الذي يحتويه، على ظنٍّ منه بأن اهتمامه بذاته وإبرازه لتلك الذات في تميُّزها، لا يتم إلا إذا حطَّم في سبيل ذلك وعاءً كان يحتويه.
ولستُ أدري على وجه اليقين، ماذا كانت العوامل في ظروف عصرنا، التي نَفخَت في صدور الأفراد طموحًا، كان في الكثرة الغالبة منهم طموحًا فوق قدرتهم على تحقيق شيء منه، فكان ما كان من سخط الفرد المعاصر على دنياه وعلى عصره، وعلى أُسرته، بل وعلى نفسه. إنه يطمح أن يكون بالغ الثراء، أو قوة السلطان، أو مرموقًا في علم أو أدب أو فن، وليس في مواهبه الأدوات التي تُحقِّق له ما يصبو إليه، فتشتعل الثورة في نفسه بغير حق. ولو كان رجال التربية في عصرنا قد وجَّهوا اهتمامهم نحو أن يعلم الفرد نفسه على حقيقتها، فلا يتوقَّع منها إلا وُسعها، راضيًا بذلك، متقنًا لذلك الذي هو في وُسعِه أن يصنعه، لمَا تَورَّط في طموحٍ إلى ما ليس في وُسع مواهبه أن تناله.
أريد أن أقول بهذا كله إن أفراد الناس، وإن يكونوا قد فُطروا على الارتفاع بأشخاصهم، ظهورًا وتميُّزًا، إلا أن تلك الفطرة قد اتَّخذَت في عصرنا صورة مَرَضية (من المرض) كان من نتائجها ذلك الإحباط الذي حطَّم النفوس — ونفوس الشباب بصفةٍ خاصة — خلال الستينيات أكثر من الأعوام التي سبقتها، ومن الأعوام التي لحِقَتها. وكان وجه المرض في مسعاهم نحو التميُّز والظهور، كامنًا في تصوُّرهم بأن استقلال الفرد بفرديته، يقتضي عِصيانًا للدين، وللقانون، وللعرف الاجتماعي، وللتقاليد الراسخة في الإبداع الفني.
ولقد رأينا في مصر — وفي الوطن العربي عامة — صورًا كثيرةً من هذه الأوهام، وخصوصًا خلال الستينيات؛ حيث كان موضوع الفخر عند المُفكِّر أو عند الفنان أو حتى عند الفرد في حياته العادية — الخاصة منها والعامة على السواء — كان موضع الفخر هو العصيان والتمرُّد، حتى أصبح ذلك الخروج على العرف المألوف تيَّارًا عامًّا، أو أشبه ما يكون بتيَّارٍ عام، لا يقتصر على بلد دون بلد. وكان ذلك التيَّار العام يتميز ببعض الجوانب الرئيسية الأساسية، التي من أهمها محاولة الانتقال بمحور الأخلاق من التزام الواجب (الديني، والقانوني، والاجتماعي) إلى التماس المتعة، على اعتبار أن الإنسان إنما يُعبِّر عن نفسه بإشباع رغباته وشهواته، أصدق مما يُعبِّر عنها بوأد تلك الرغبات والشهوات.
ما الذي دفع أبناء تلك الفترة، أن يأكلوا آباءهم، إذا استخدمنا التصور الفرويدي الذي أسلفناه؟ ظني هو أنه — بين عواملَ تاريخيةٍ أخرى — حين وجد معظم الأفراد أنْ ليس لهم أدوارٌ اجتماعية يُؤدُّونها على سبيل المُبادأة والأصالة والإبداع، ورأوا أنفسهم أقرب إلى أدواتٍ صمَّاء تُنفِّذ ما يُراد منهم أن يؤدوه، عزَّت عليهم أنفسهم، فأوجدوا لأنفسهم تلك منافذ تُحقِّق فردياتهم المكتومة، ولكنها موجةٌ جاءت فغَمرَت، وواضحٌ أنها في سبيلها إلى السكون المنتج الفعَّال.
على أن ما نلحظه اليوم ونخشاه، هو أن بندول الحياة الثقافية على وجه التعميم الذي لا يخلو من استثناءات هنا وهناك، عندما زُحزح من موقعه المتطرف نحو التمرُّد، لم يقف عند نقطة الاعتدال، بل تأرجح إلى الطرف النقيض، واعتصم هناك بحصنٍ يُريد به أن يشُد الناس إلى الوراء. فاعجب ما شاء لك العجب لشبابٍ يرفضون الحاضر، لا ليقفزوا إلى المستقبل قفزًا يتناسب مع فتوة الشباب وأمله، بل ليَكِر راجعًا إلى ركنٍ من الماضي يحتمي به! لولا أن ثَمَّةَ في أفق حياتنا دلائلَ كثيرةً تدُل على أن ذلك البندول في طريقه إلى التوسُّط العاقل، وعندئذٍ يعتدل بنا الميزان.