ولادة عصر جديد!
قضى التاريخ على هذا القرن العشرين، أن يجيء مرحلةً وسطى يتحول فيها الناس من حضارةٍ كانت قد استقرت على قوائمها، إلى حضارةٍ أخرى، تريد بدورها أن تستقر على قوائم، أو — إن شئت مزيدًا من دقة التعبير — قل إنهما رؤيتان مختلفتان في حضارةٍ واحدة؛ إحداهما شهِدَت ذروتها في أوروبا خلال القرن الماضي، ويُرجى للأخرى أن تتم ولادتها في القرن الآتي (الحادي والعشرين). وأمَّا هذا القرن الذي نحن فيه، فهو همزة الوصل بين الحالتَين، فإذا كان له حسنةٌ تُذكَر، فهي أنه هو الذي احتمل آلام المخاض تمهيدًا لقدوم وليدٍ جديد.
كان القرن الماضي هو الذي بذر البذور. وسيكون القرن الآتي هو الذي يحصد الثمار. وأمَّا المرحلة الوسطى، التي هي الشجرة في نمائها وعَنائها، فقد كانت نصيبنا نحن — أبناء القرن العشرين — ففي القرن الماضي ظَهرَت طائفة من الأفكار العظيمة، التي سوف تكون بذورًا وجذورًا للحياة الجديدة؛ فلا يكاد عصرنا الحالي يُضيف من عنده إلى تلك الأفكار الكبرى فكرةً واحدة؛ ولذلك فقد انحَصرَت مهمته في الفهم والهضم والشرح والتحليل، وأحيانًا قليلة في المعارضة والتعديل، ثُمَّ في محاولات التطبيق؛ ففي منتصف القرن الماضي ظهر دارون بفكرة التطوُّر البيولوجي، وظهر في الوقت نفسه تقريبًا ماركس بفكرة التطوُّر المادي للتاريخ، وبعدهما بقليل ظهر فرويد بفكرته عن اللاشعور. وجنبًا إلى جنب مع تلك الأفكار ظَهرَت رياضةٌ جديدة كادت أن تنسف أُسس العلم الرياضي كما عَرفَته الدنيا منذ إقليدس. كما ظهر في العلوم الطبيعية منهجٌ جديد يختلف اختلافًا بعيدًا عن كل ما أَلِفَته تلك العلوم من قبلُ، ألا وهو منهج البحث بالأجهزة الدقيقة «التكنولوجيا». فما هي إلا أن انكَشفَت طبيعة الوحدات الصغرى، كالذرة، والخلية، فانفتح الطريق أمام رؤيةٍ جديدة للكون، هي الرؤية التي تَبَلورَت في نظرية النسبية التي قدَّمها أينشتين، فنتج عن هذا كله ما نتج مما نعيش الآن في مناخه وتحت سمائه.
تلك هي البذور التي بذرها علماء القرن الماضي، والتي كُتب على عصرنا أن يتولى فهمها وهضمها وتطبيقها، وربما قدَّم لها تعديلاتٍ هنا وهناك. وكان لا بُدَّ أن تحدث تحوُّلات في رؤية الإنسان، وفي طرائق عيشه بناءً على ذلك العلم الجديد. ولو كانت تلك التحوُّلات مقصورة على مستوى العلماء وحدهم، يتناقشون ويتجادلون، لذَهبَت الموجة في غفلةٍ من جمهور الناس، لكنها كانت تحوُّلاتٍ تناوَلَت صميم الحياة العملية، مما استتبع حتمًا أن يتغير شيءٌ من القيم والعرف؛ وبالتالي لم يكن بُدٌّ من حروب وثورات ليتحقق الشمول على أرض الواقع، في البيت والشارع، والمزرعة، والمصنع.
جاءت حياتنا — على امتداد ما مضى من القرن العشرين — مضطربة الموج، مهتزة المعايير، لا نكاد نميز الفوارق الفاصلة بين ما هو خطأ وما هو صواب في أي شيء؛ فليس يدري أحد على وجه اليقين الثابت كيف يكون نظام الحكم، بحيث نضمن للسفينة أن تسير بمنجاة من العواصف والصخور. وحتى في البلاد التي رَسخَت جذورها في استقلالها بحكم نفسها، والتي لم تكن تتعرَّض لزلازل الثورات والانقلابات، ظهر فيها إبَّان هذا العصر الراهن ما قلقل بنيانها الراسخ؛ لأن تحوُّلًا جديدًا طرأ عليها وعلى الدنيا بأَسْرها، وهو أن يأخذ العمال بنصيبٍ في حكم بلادهم، بعد أن لم تكن فكرةٌ كهذه تخطر بالبال منذ أن كانت في الدنيا حكومات! فعلى أية صورة، وإلى أي حدٍّ ينال العمال هذا الحق العادل المشروع؟ إجاباتٌ كثيرةٌ مختلفة تسمعها من أقطار الأرض.
وكذلك لا يدري أحد دراية اليقين الثابت، كيف يكون التعليم الذي يضمن لكل فرد حقه، ويضمن في الوقت نفسه للمجتمع تقدُّمه في ظروف الحياة الحاضرة. إننا لمعذورون إذا كُنَّا نبني في نظم التعليم اليوم ما نهدمه غدًا، ونهدم اليوم ما أقمناه بالأمس؛ فالتحولات سريعة وجارفة، والأفكار متقلبةٌ متغيرة بعد أن كان العالم طَوال العصور ثابتًا وعلى رأيٍ مُعيَّن محدَّد في التعليم، خلاصته أن هناك مادةً علميةً موجودة بين أيدينا، وعلينا أن نصُبَّها في رءوس الدارسِين، وليس لهؤلاء الدارسين إلا أن يتقبلوا ما يتلقونه، راضِين أو ساخطِين! فجاء عصرنا هذا — عصر التحوُّلات — ليسأل: وأين تذهب بشخصية الدارس نفسه؟ لماذا لا تكون تنمية هذه الشخصية هي الأساس الذي تتكيف له مُقرَّرات التعليم، بدل أن نجعل الأولوية لتلك المُقرَّرات، وافَقَت شخصية الدارس أم لم توافق؟ وما زال العالم يتخبط بين هذَين المحورَين.
كلَّا، ولا يدري أحد على وجه اليقين الثابت على أية صورة مثلى نَصُب حياتنا الاقتصادية، بحيث نستوثق من صيانة حقوق الأفراد كما ألِفناها، ونضمن في الوقت نفسه اطِّراد النمو للمجتمع في جملته. هنا أيضًا تأتيك الإجابات المتعارضة، بل إن البلد الواحد ليتذبذب في الرأي يومًا بعد يوم. وهكذا، وهكذا تجري سفينة عصرنا على موجٍ يعلو بها ويهبط، لأنه عصر التحوُّلات.
وحياتنا في مصر إبَّان مرحلة التحوُّلات هذه، ملأى بأمثلةٍ تُبيِّن مقدار ما تتعرض له من غموض الرؤية، بسبب اختراقنا لمنطقة الضباب الحضاري، التي يخترقها العالم كله بين مرحلةٍ ذهب زمانها، ومرحلةٍ يُنتظر لها أن تجيء. إنني أذكر جَيِّدًا ذلك الصديق الذي قابلني يومًا منذ نحو ثلاثين عامًا، وكُنا صِنوَين على طريق العمر، وعلى طريق الدراسة كذلك، لكنه كان أنفذ مني بصيرةً بطبيعة الفترة التي نجتازها. وأخذنا نتحدث طويلًا وعميقًا عن أفضل أساليب العيش في زماننا هذا. وكنت أنا ممن يأخذون بضرورة أن يصعد الصاعدون سلم الحياة درجةً درجة، ومع كل درجة ينبغي للصاعد أن يُؤهِّل نفسه بما يبرر له ذلك الصعود. وأمَّا صديقي فكان رأيه أن هذا الذي أقوله عن الصعود المتأني لا يجوز إلا في زمانٍ استقرت فيه المعايير، وما دام عصرنا تموج من تحته الأرض وتميد، فلا ثبات ولا استقرار. إذن فلِمَن يستطيع كلُّ الحق في أن يقفز طيرانًا من أسفل السلم إلى أعلاه، دون أن تطأ قدماه مراحل الصعود الجزئية ليعرف مذاقها. ولقد كان لكلَينا — صديقي وأنا — أن عاش وَفق رأيه، فطار صديقي على قمم الجبال في حياتنا طيران الصقور، جزاء رؤيته الصادقة لطبيعة عصره، وزحفتُ أنا على أديم الأرض زحف السلاحف، ولكن لعله أدوَم بقاء.
وإني لأُطيل الأحاديث مع رفاقٍ أكرمِين، ارتَفعَت قاماتهم في ميادين الفن والأدب، فأسمع منهم ما يدلني على روح عصرنا، كيف أنه عصر التحولات التي تلتمس مخرجًا نحو عالمٍ جديد؛ فنابغةٌ من نوابغ الفن عندنا، يشعر شعور الرضا عن نفسه؛ لأنه ما ينفك يُجدِّد في اتجاهه الفني عامًّا بعد عام، أو شهرًا بعد شهر. ونابغةٌ من نوابغ الأدب المسرحي، يُفاخر بأنه قد عاهد نفسه منذ أول شوطه ألا يقيم على شكلٍ أدبي واحد، إلا ريثما يصوغ نموذجًا له، ثُمَّ ينتقل إلى شكلٍ أدبي آخر. ونابغةٌ ثالث من نوابغ القصة، يحاول عامدًا أن يكون له في كل مرة قالبٌ أدبيٌّ جديد، خشية أن يُقال عنه إنه يتبع التقليد في مجاله الأدبي … هذه كلها حالاتٌ قد تدُل على خصوبة الابتكار عند الرُّوَّاد، لكنها كذلك علاماتٌ على عصر التحوُّلات الذي نعيش فيه، والذي لا يدري أحدٌ من أبنائه دراية الواثق، ما الحدود الفواصل بين الجيد والرديء.
ولم تكد المرأة عندنا تكسب شيئًا من حقوقها، حتى بدأنا اليوم نسمع من المرأة نفسها عجبًا؛ إذ أخذت كثيراتٌ من سيداتنا وبناتنا يتشككن في أن يكن قد اخترن الأفضل، حين اخترن الخروج على ميادين العمل. ولقد سمعتُ عن استفتاء جرى بين مجموعةٍ من فتيات الجامعة، يسأل عن رأيهن في صورة العلاقة المُثلى بين الزوجَين، فكانت الكفَّة أرجح في جانب الصورة التقليدية التي سادت قبل أن تظفر المرأة بشيء من حقوقها، وهي علامةٌ أخرى على أن عصرنا يكتنفه ضبابٌ فهو يتردد في كل موضوعٍ بين نعم ولا؛ لأنه عصر التحوُّلات.
ولعل بحث الإنسان في عصرنا هذا، عن شيء يجعل لحياته معنًى، حتى لا يراها عبثًا من العبث، هو الذي أحدث التعدُّد في الآراء حول تقويم الأشياء والمواقف؛ فأصبح ما هو مقبولٌ عند هذا مرفوضًا عند ذاك. ولم يكن مثل هذا البحث عن معنًى للحياة، أو قل عن هدفٍ واضح لها، أمرًا واردًا في عصورٍ كثيرة مضت؛ لأن ظروف العيش فيها لم تكن تستدعي سؤالًا كهذا، كما تستدعيه ظروف العيش في عصرنا.
ففي الفترات الطويلة التي سادها الإيمان الديني الراسخ، كان معنى الحياة في هذه الدنيا لا يحتاج إلى بحث أو سؤال؛ وذلك لأن الجواب كان حاضرًا في الأذهان، وهو أن سعي الإنسان في دنياه، يستهدف حياةً في الآخرة تكون أكمل وأعدل.
كلَّا، ولا كان السؤال عن معنى الحياة واردًا، في العصور التي سادتها روح الإبداع الفني — وقد يكون ذلك الإبداع الفني منبثقًا عن حياةٍ دينية وقد لا يكون — كما كانت الحال في عصر النهضة الأوروبية لأن الإنسان وهو يبدع فنًّا، أو وهو يغامر كاشفًا للبحار المجهولة، وصاعدًا للجبال القاسية، وضاربًا في الأرض هنا وهناك — وكل ذلك كان في أوروبا أيام نهضتها، أقول إن الإنسان وهو منهمكٌ في مثل هذا الإبداع لا يسأل ما معنى الحياة وما هدفها؛ فمعناها عندئذٍ وهدفها ماثلان بين يدَيه. وكذلك لا يكون السؤال واردًا في عصر تكثُر فيه منجزات العلوم، كما كانت الحال إبَّان القرن الماضي في أوروبا أيضًا؛ فلقد خُيِّل للإنسان الأوروبي — والأمريكي — يومئذٍ أن مفاتيح التقدم الإنساني كلها في أيدي العلوم ومنجزاتها. وإذا كانت تلك هي نظرته إلى العلم وقدرته على فك أسرار الوجود، فلم يعُد للسؤال عن معنى الحياة موضع؛ إذ يكون ذلك المعنى في تحصيل العلوم، ثُمَّ في استخدامها حتى تتحقق للإنسان سيادته على الطبيعة بكل ما فيها من أسباب القوة.
أمَّا في عصر التحوُّل هذا الذي نعيش نحن اليوم فيه، فالسؤال وارد لأن الموج مضطرب — كما قلنا — والمعايير مهتزة، والأهداف الحقيقية يَلفُّها الضباب، فلا ندري في مسالك حياتنا أين الخطأ وأين الصواب، على أن هذا كله مدعاة للتفاؤل؛ لأنه هو نفسه الإرهاصات التي تسبق ولادة عصرٍ جديد.