إنسان هذا العصر
قبل أن أكتب كلمةً مما أَردتُ أن أكتبه في موضوع الإنسان وعصره هذا الذي كُتب علينا أن نكون من أبنائه، لا بُدَّ لي من ذكر حقيقةٍ لها عندي صدارة لأنها — على الأقل — تقطع الطريق على النقد المتسرع؛ هي أنه إذا كان محتومًا على الناس في عصرٍ مُعيَّن، أن يشربوا ماءهم من موردٍ واحد، يكون هو الينبوع الذي تتدفق منه الخصائص الأساسية لذلك العصر، فإن هذا المورد المشترك لا ينفي أن تتشعب الحياة بعد ذلك شعوبًا مختلفةً في جوانبَ كثيرةٍ من العقائد والأذواق وطرائق العيش؛ فالأمر في ذلك شبيه بشجرةٍ عاتيةٍ رَسخَت في الأرض بجذعٍ ثابتٍ لا يميل مع العاصفة حيث تميل (وذلك هو روح العصر) حتى إذا ما اطمأن الجذع على ثباته ورسوخه، تفرَّعَت فروعه وامتدت متشابكةً أو متفرقة، ولكلٍّ منها أن يستقل بحركته وأوراقه؛ فحتى لو ضعُف منها فرع وانكسر، فلا يُؤثِّر مصيره بالضرورة في سائر الفروع.
وبعد هذا التحوُّط الذي جعلنا له صدارة، تلافيًا لما قد يُقال من أن الحديث عن العصر ووحدانيته ربما تَضمَّن طمسًا للخصائص النوعية التي تُميِّز الشعوب المتباينة شعبًا من شعب؛ أقول إنني بعد هذا التحوط، أسأل: ما هي أخص خصائص هذا العصر، التي لا بُدَّ أن يتمثلها كل إنسان، كائنًا ما كان بعد ذلك ما يفصله عن سواه؟
أقول: ليست تلك الخصائص العامة المشتركة مطروحةً لاختيارنا، فإمَّا أخذناها وإمَّا نبذناها، كلا بل هي فرضٌ على كل من يُقِلُّه العصر الحاضر بأرضه، ويُظِلُّه بسمائه.
أولى تلك الخصائص التي ليس منها مهربٌ لمن أراد أن يُحسَب بين الأحياء، ذلك التوازُن الدقيق بين علمٍ ومنهاجه في ناحية، وفنٍّ وإبداعه في ناحيةٍ أخرى؛ في الأول تفنى الذات الفردية بقَدْر ما هو في مستطاعُ صاحب الذات أن يُفنيها، وفي الثاني تَعتبِر الذات الفردية بنفسها، بقَدْر ما هو في مُستطاعِ صاحبها أن يُثبت وجودها. ولست أظن أن عصرًا قبل عصرنا هذا، قد انفَرجَت فيه الزاوية بين ظاهرٍ وباطن، بمثل ما انفرجت في عصرنا؛ فالظاهر الذي هو من شأن العلم أن يبحثه ويستخرج قوانينه، بعيد بعدًا شاسعًا عن باطن الإنسان، الذي هو من شأن الفن أن يُخرِجه ألحانًا وألوانًا، أو تعبيرًا بالكلمات؛ فلقد كان يمكن في أي عصرٍ سابق، أن نجد للعصر الواحد روحًا واحدةً موحدةً، تظهر في هذه الناحية علمًا، وفي تلك الناحية فنًّا؛ ففي عصر النهضة الأوروبية مثلًا انطلق الإنسان — مدفوعًا بدافع العلم — يرحل في مَجاهل البحر والبَر والسماء، بل ويرحل كذلك في مَجاهل «العقل» الإنساني، باحثًا عن طرائق نشاطه إبَّان عملية التفكير، فكان الإنسان بهذا كله، كأنما يستكشف في الكون «أبعاده» طولًا وعرضًا وعُمقًا. وانعكس هذا في الفن، فرأينا التصوير يُدخِل البُعد الثالث على رسومه، بعد أن كان قبل ذلك يكتفي بالصورة ببُعدَين؛ هما الطول والعرض، كما نرى في رسوم المصريِّين القدماء أو في رسوم العصر المسيحي في مصر.
وأمَّا في عصرنا هذا، فلقد جاء الفن، لا ليَجري مع العلم في منحًى واحد، بل جاء ردًّا مُضادًّا. أراد العلم المعاصر، مع لواحقه التكنولوجية والصناعية، أن يَطغَى على شخصية الفرد؛ بحيث يَصُب الأفراد جميعًا في قوالبَ متجانسة، ثيابًا، وطعامًا، وشرابًا، ومسكنًا، وترفيهًا في وقت الفراغ؛ فالثياب الجاهزة يلبسها الجميع، والطعام المُعلَّب أو المُجمَّد يأكله الجميع، وعمارات السُّكنَى باتت متشابهةً في كل أرجاء الأرض، حتى لقد مدَّت شركات الفنادق نطاقها لتُقيم كل شركة منها فنادقها المتشابهة حيثما حَلَلْت، ووسائل الإذاعة — مسموعةً ومرئية — تملأ ساعات الفراغ للشعب كله بمادةٍ واحدة. هكذا أراد علم العصر ولواحقه أن يَصُب الأفراد في قوالب التجانس، فأراد الفن أن يُعوِّض الفردُ ما أضاعه العلم من فرديته المتميزة، فكان ما كان من ضُروب الإبداع الفني، التي استحل فيها المُبدِعون لأنفسهم أن يخلُقوا بفنونهم عالمًا غير العالم الظاهر الذي خضع للعلم راغمًا. ومن هنا كان أول ما يُميِّز ثقافة عصرنا، هو الإمساك بالميزان مُتعادِل الكفتَين بين علمٍ وفن.
لكننا إذ نقول شيئًا عن عِلم هذا العصر، فإنما نعني «علم» «هذا العصر» لا أي علمٍ آخر في عصرٍ آخر؛ لأن لعلم العصر روحًا منهاجًا يختلف بهما عن العلم في كل ما سبق من عصور. ويكفيني هنا أن أَروِي للقارئ ما سَمِعتُه في حديثٍ تلفزيونيٍّ لمُتحدثٍ فاضل؛ إذ سَمِعتُه يقول لمن يستمع إليه شيئًا كهذا: من أين يأتي أي عالمٍ بعلمه؟ أليس يأتي به من أُستاذه؟ ومن أين أتى ذلك الأستاذ بعلمه؟ ألم يكن ذلك بدوره عن أستاذه؟ وهكذا دوالَيكَ جيلًا عن جيل، وعالمًا عن عالم. وأين يقف التسلسل؟ قال المتحدث إنه يقف عند آدم عليه السلام. ومعنى ذلك أن العلم البشري كله — فيما قال المتحدث — منبثقٌ من آدم. ومثل هذا القول إن جاز أن يُقال عن المعارف التي تجيء اشتقاقًا بعضها من بعض، كمعرفتنا باللغة مثلًا، فهل يجوز على علمٍ يَستخرِجه العالم من تجارِبَ علميةٍ يُجريها بأجهزته القياسية؟ افرِض أن أحد العلماء قد قاس سرعة الصوت، أو حلَّل طبيعة التربة التي نزل بها رُوَّاد القمر، ثُمَّ سأل متحدِّثًا: من أين جاء العالم بعلمه في حالات كهذه؟ أيكون جوابنا هو أنه أتى به من أستاذه، وهذا الأستاذ من أستاذه، وهلمَّ جرًّا؟ أم يكون جوابُنا أنه أتى بعلمه من تجربةٍ جديدةٍ غير مسبوقٍ إليها؛ فهو عِلمٌ لم يكن يعلمه أستاذه على نحو ما افترض مُتحدِّثنا الجليل في حديثه التلفزيوني.
تلك إذن سمةٌ ضروريةٌ من سمات الإنسان في عصرنا. وأعني أن يسلم ذاته في ميدان المعرفة العلمية، فلا يكون له فيها هوًى على أن يُعيد لذاته تلك اعتبارها ووجودها في ميدان التعبير الفني، وهو ميدانٌ فسيحٌ لا تكاد تَحدُّه حدود. وأمَّا السمة الثانية لإنسان العصر، والتي ليس لنا إلا أن نتمثلها إذا أردنا المشاركة في زماننا، فهي الإيمان بما للإنسان من حقٍّ في تقرير مصيره، فردًا كان أو جماعة. وأعني بذلك حق «الحرية» في مختلف أبعادها ومُقيَّدة بشروطها؛ فالحرية الحق هي إبداع، وكما هو الشأن في كل إبداع، لا بُدَّ من «قيود» لضبط الإيقاع أثناء الحركة والسير، كالشاعر حين يُقيم أمام نفسه قيود الشكل الفني من وزنٍ وتقسيم، ليستطيع بعد ذلك أن يخطُو على تلك القيود بالحرية التي يعرفها الفن في إبداعه. وما يُقال عن هذا الضرب من الحرية في دنيا الفنون، يُقال مثله في الحياة السلوكية بصفةٍ عامة.
ولقد تفَرَّعَت عن «الحرية» في عصرنا، فروعٌ بالغة الأهمية في حياة الإنسان؛ من أهمها أن تتعدد الثقافات بتعدُّد الشعوب، بعد أن كان الاعتراف في العصور السابقة لا ينعقد إلا لثقافةٍ واحدة، تكون هي ثقافة الأُمة الأقوى في ميدان الحضارة؛ فإلى نهاية الربع الأول من هذا القرن، لم يكن يُعترَف بنموذجٍ ثقافيٍّ إلا للثقافة الأوروبية. وأمَّا الآن فلكل شعبٍ مهما صغر حجمه أن يعرض ثقافته الخاصة، دون أن يُخجِله اختلافها عن ثقافة الأوروبي أو الأمريكي. وانظر إلى مجتمعٍ دوليٍّ كهيئة الأمم المتحدة عند انعقادها، تجد مهرجانًا من اللغات والثياب والعادات؛ كلٌّ يعتزُّ بما عنده، وكلٌّ يحترم ما عند الآخرِين.
وسمةٌ ثالثةٌ لعصرنا، هي إيمانه بأن الحياة الإنسانية «تتقدم». ولقد يتعجب القارئ — كما شَهِدتُ بنفسي أناسًا يتعجبون — عندما يُقال إن عصرنا يؤمن ﺑ «التقدُّم»؛ إذ قد يسألك سائل: وهل كانت العصور السابقة تؤمن ﺑ «التأخُّر»؟ وفاتهم في ذلك أن الإيمان بالتقدُّم نتيجةٌ لازمة، وهي أن نؤمن — بالتالي — بأن المستقبل سيكون خيرًا من الحاضر، وأن الحاضر لا بُدَّ أن يكون خيرًا من الماضي. وبناءً على هذه النظرة لا يجوز لأحد ممن يؤمنون بالتقدُّم أن يلتمس نماذجه التي يقيس عليها الصواب والخطأ، فيما قد مضى وانقضى زمانه. وها هنا ستلحظ شيئًا من الفزع عند من تعجبوا أول الأمر لقولك إن الإيمان بالتقدُّم هو من سمات عصرنا. فإذا كان السابقون قد رأوا التاريخ البشري في خطٍّ ينحدر مما هو أكمل إلى ما هو أقل كمالًا، حتى لقد تعذَّر عليهم إلا أن يجعلوا «العصر الذهبي» فيما مضى، لا فيما هو حاضرٌ بين أيديهم، فعصرنا هذا يعكس الأمر، ليجعل خط التاريخ البشري صاعدًا أبدًا نحو ما هو أكمل.
ومن الفروع الهامة التي تفَرَّعَت في عصرنا عن فكرة «التقدُّم» محاولة «التنمية» التي تشغل الناس اليوم في كل مكان؛ فهم في كل بلدٍ ما ينفكون يسألون ويبحثون: كيف يُحقِّقون النماء في شتى وجوه الحياة؛ علمية واقتصادية واجتماعية وغير ذلك مما قد يخطر أو لا يخطر ببالك من وجوه، حتى لَيقيسون نجاح الأمة من الأمم بدرجة قدرتها على تنمية نفسها عامًا بعد عام؟ مما حفَّز الناس إلى مزيدٍ من التنمية بعد مزيد. وكان هذا النهم نحو التنمية سببًا في فزع طائفةٍ من رجال الفكر في أرجاءٍ مختلفةٍ من العالم خشية أن يؤدي ذلك النهم الذي لا يُشبَع إلى استنزاف كنوز الأرض، فلا يبقى منها شيء للأجيال القادمة. ولم تكن لفكرة «التنمية» هذه أن تشتد قبضتها على عقول المعاصرِين، لولا إيمانها أساسًا بفكرة «التقدُّم».
على أن ما يهمنا نحن من هذا كله، هو ما نلحظه من تناقضٍ في أفكارنا وفي أهدافنا؛ فبينما ننادي في جميع ميادين العمل بالتنمية في شتى صورها، حتى لقد أوردتها وزارة التعليم في تقريرها الخاص بتطوير التعليم، على أنها محورٌ رئيسيٌّ في ذلك التطوير، لكننا في الوقت نفسه، ترانا في مجالاتٍ أخرى نُذيع في الناس دعوة إلى الرجوع القهقرى، كأنما نُريد نقيض النماء؛ إذ نريد انكماشًا في قواقع الماضي.
وقد كان يمكن أن أجعل «التنمية» هذه، سمةً أُولى بين سمات عصرنا؛ لأنها تحوي في جوفها كل خيوط الحياة المعاصرة؛ فهي تحوي بين ما تحويه تنمية الإنسان الفرد تنميةً تُتيح له أن يعبر عما كمن في فطرته من قدرات. وحسبنا هذا النماء الحر لكل مواطنٍ على حدة، ليتحقق لنا ما نريده من حرية للإنسان تُبدع له ولنا ما هو جديد، ثُمَّ ليتحقق لنا ركن من أهم أركان العصر، ألا وهو أن يكون الهدف الأسمى للإنسان هو الإنسان نفسه. ولعل التاريخ لم يشهد عصرًا كعصرنا إذ يدعو إلى ضربٍ من التعاون بين أغنياء الشعوب وفقرائها؛ فقد كانت دعوة كهذه تقتصر فيما مضى على العلاقة بين الفرد الغني والفرد الفقير. أمَّا أن تُقام الدعوة على أن تُعطي الأمة الغنية مما عندها إلى أمةٍ فقيرة، وعلى أن هذا العطاء ليس من قبيل الصدقة، بل هو من صميم النظام الاقتصادي نفسه، فذلك شيءٌ جديد. ولسنا نقول إن هذا الجديد قد استقر على دعائمه، بل يكفينا أنه سار خطواتٍ في طريق التنفيذ.
وإن شئت صورةً موجزةً لإنسان العصر — في المتوسط العام — فهو إنسانٌ يؤمن في طبيعته البشرية بجانبَين، ويُريد أن يحياهما معًا في توازنٍ بقَدْر المستطاع؛ فالعقل من جهة والوجدان من جهة أخرى. من الأوَّل يجيء العلم وما يتفرع عن العلم، ومن الثاني يجيء الفن وما يتفرع عن الفن. وإنسان العصر يُؤثِر البساطة في كل شيءٍ فلم تعُد ترى في عمارته قصورًا مزخرفةً كالتي كانت، ولا طعامًا ولا ثيابًا بالتعقيد الذي كان. ولعل بساطته تلك قد تفَرَّعَت عن نزوعه الشديد نحو الحرية، إلى الدرجة التي تجعل حتى أعداء الحرية يُخفون عداوتهم تلك وراء الأستار ليظهروا بدعواها أمام الناس، وإنسان العصر أميل إلى الاعتدال بين الأطراف المتطرفة، فإذا مال به العلم نحو عقلانيةٍ خالصة في ناحية، شده الفن وتذوُّقه نحو نبض الوجدان في الناحية الأخرى؛ ولذلك لم يعُد يظفر بالرضا العام من يتزمَّت في عقيدةٍ أو في رأي. نعم إن العالم لم يخلُ — ولن يخلُوَ — من تعصُّب المُتزمِّتِين، لكن المُعوَّل إنما هو عن الرضا أو السخط من الرأي العام. وفوق هذا وهذا وذاك، فإنسان العصر يزداد مع الأيام إيمانًا بدعوةٍ قديمةٍ قِدم التاريخ، لكن الإيمان بها هو الذي يضعُف ويشتد، ألا وهي الدعوة التي تقول إن الإنسان إذا لم يكن في سمو الإله، فلا يجوز له أن يهبط إلى خِسَّة الحيوان.