الرؤية الواحدة

جلسنا عشرة أشخاص حول منضدةٍ مستديرة، كان في وسطها تمثالٌ صغيرٌ لفارس يركب جوادًا، ثُمَّ طُلب لنا أن نرسم ذلك التمثال كلٌّ من زاوية رؤيته. والحمد لله فقد كُنَّا جميعًا ممن لهم بعض القدرة على الرسم، فلما تم لنا ما أردناه، أخذنا نُقارن الرسوم بعضها ببعض لنرى كم أحدثت فيها زوايا الرؤية المختلفة من خلاف؛ فبالطبع وجدنا التبايُن بينها قريبًا حينًا إلى الدرجة التي يصعب عليك معها أن ترى اختلافًا في الجانب المرئي بين صورة والصورة التي تجاورها، بعيدًا حينًا آخر إلى الحد الذي يجعل صورةً منها تُبدي من الفرس صدره ووجهه، وصورةً أخرى مُقابلةً لها تُبديه من ظهره وقفاه.

رسومٌ عشرة اختَلفَت بعضها عن بعض، باختلاف الزوايا التي نظر منها الرسامون العشرة، لكنَّ هنالك — برغم هذا التبايُن — قدرًا مشتركًا بينهم جميعًا، لا اختلاف عليه؛ فكلهم يُقِر وجود الفارس فوق جواده. ولم يكونوا ليُجمعوا على هذا القدر المشترك لو جلس بعضهم مُديرًا ظهره إلى المِنضدة وما فوقها. وشيءٌ كهذا هو ما نريده لأنفسنا في حياتنا الثقافية؛ فليكن لكل فردٍ مِنَّا وجهة نظره؛ أي ليكن لكل مِنَّا الرؤية الخاصة التي ينظر منها إلى الأشياء والأحياء والمواقف، لكن لا بُدَّ من قَدرٍ موضوعيٍّ مُشترك بيننا جميعًا، هو الذي يُحدِّد لنا آخر الأمر ثقافة المصري ماذا تكون.

ولكي نمضي في التصور الذي بدأنا به توضيحًا، لما نريد إثباته، سنغيِّر من عناصره قليلًا، ونضع بين الأشخاص العشرة — بدل الفارس وجواده — مسألة يُراد فيها الرأي أو عدة الآراء. ولتكن مسألتنا — مثلًا — هي هذه: ما هي أقوم السبل التي نحمل بها المواطنِين على ضبط النسل ضبطًا نُقاوِم به هذا التفجُّر السكاني المُخيف؛ فها هنا لا اعتراض على اختلاف الرأي: عن أي طريق يكون الإقناع؟ أنسلكه في مناهج التعليم ذاتها، بالإضافة إلى وسائل الإعلام العامة، أم نقصره على الثانية دون الأولى؟ أنلجأ إلى التشجيع المالي عن طريق الضرائب — مثلًا — فنرفعها عن الأسر الصغيرة ونضاعفها على الأسر الكبيرة؟ … تفريعاتٌ كهذه يجوز أن يختلف عليها الرأي. أمَّا جوهر المشكلة فموضوع اتفاقٍ عام، لكن ما هكذا جاء الأمر الواقع في هذا الصدد؛ إذ رأينا نفرًا من أئمة القول، ولهم من التأثير ما لهم، يُذيعون في الناس أن يَسُدوا آذانهم دون الدعوة كُلِّها، وليكثر النسل ما يكثر؛ فلا عليهم في ذلك من بأس، بل إن البأس هو في أن يحولوا دون تلك الكثرة … فرجالٌ كهؤلاء هم بمثابة من أدار ظهره إلى المنضدة وما عليها، في الصورة التي رسمناها في أول هذا الحديث.

ومثل هذا الخلاف في اتجاه الأفكار قد تُلاحظه في مواقفَ كثيرةٍ من حياتنا الفكرية، مما يمتنع معه أن نلتقي عند رؤيةٍ واحدة، يتسع فيها المجال لاختلاف الآراء، شريطة أن نظل على وحدةٍ متجانسةٍ بالنسبة إلى الأسس والمبادئ. وعندي أنه إذا أردنا لأنفسنا سياسةً ثقافيةً تسير على هديها، كان إيجاد الرؤية الواحدة هو محور تلك السياسة ومدارها، ولكن كيف السبيل؟

إنني كلما وجدت «الثقافة» موضوعًا للحديث الجاد؛ أعني الحديث الذي يجاوز أن يكون للسمر في حلقة الأصدقاء، شعرت بشيءٍ من الحرج حتى أمام نفسي؛ وذلك لأنني في كل مرة أتناول فيها موضوع «الثقافة» بالتفكير، أجدني مضطرًّا إلى السؤال: وماذا تعني «بالثقافة»؟ ولقد سَمِعتُ وزيرًا للثقافة ذات يوم، وكنا فيما يُشبه ندوةً تناقش مستقبل العمل الثقافي في مصر، سَمِعتُه يصيح في استنكارٍ شديدٍ لأحد المُتحدثِين؛ إذ بدأ حديثه بمحاولة تعريف «الثقافة» بما يُحدِّد معناها، فقال الوزير في صيحته تلك: أفبعد هذا كله، وبعد أن كانت لنا وزارة بأكملها للثقافة، نسأل: وماذا نعني بالثقافة؟ … نعم إن الأمر لينطوي على شيء من الحرج أن يسأل سائلٌ عن معنى «الثقافة» بعد هذا كله، ولكن ما حيلتنا وهي كلمةٌ وَسِعَت كل شيء — أو كادت — كأنها «الفِرا» الذي جرى عنه المثل القديم القائل: «كل الصيد في جوف الفِرا.» وما دام هذا هو شأنها، ولم يعد لنا مندوحةٌ عن تعريفها كلما هممنا بالدخول في مجالٍ من مجالات معانيها المتعددة.

وإذن فلنسأل — بكل شجاعة — سؤالنا: ماذا نعني «بالثقافة» عندما يكون هدفنا إيجاد رؤيةٍ واحدةٍ بين أفراد الشعب جميعًا، على اختلاف مستوياتهم التعليمية؟ إن أول ما يَرِد على خاطري عند محاولة الجواب، هو أن الرؤية المنشودة، أقرب إلى أن تكون «حالةً ذوقية» منها إلى أن تكون حصيلةً معينةً من معلومات؛ فالمطلوب هو إيجاد موقف وجداني بين أفراد الشعب جميعًا، يميل بهم إلى الاشتراك في تقبُّل أشياءَ معينةٍ وفي النفور من أشياءَ معينةٍ أخرى، بما في ذلك الأفكار والقيم وطرائق العيش. وما دام الأمر كذلك، فإن سؤالنا يصبح هكذا: ما هي السبل التي نسلكها لنخلق في أفراد الشعب وجدانًا مشتركًا إزاء دنياهم التي يعيشون فيها اليوم؟ والمعلوم أن هذا الوجدان المشترك — إذا أوجدناه — كان المُرجح لأفراد الشعب أن تجيء ردود أفعالهم على مواقف الحياة الهامة على درجةٍ كبيرةٍ من التجانُس والاتساق. وعلى ضوء هذا نقول: إن معنى «الثقافة» في هذا المجال الخاص، هو أنها محاولاتٌ لتحويل الواقع الخارجي إلى حالةٍ وجدانيةٍ باطنية، لكي تتحول تلك الحالة الوجدانية بدورها إلى سلوكٍ خارجيٍّ يرُدُّ به صاحبه على موقفٍ معينٍ يُحيط به.

وأحسب أننا لا نكاد نقول قولًا كهذا، حتى يبرُز أمام أبصارنا الأساس الأوَّل — والأهم — في تصوُّرنا «للثقافة» وما تعنيه، في هذا المجال الخاص من مجالاتها الكثيرة، وهو نفسه المجال الذي ندور فيه عندما نبحث عن «سياسة الثقافة» نرسمها، لنعمل على ضوئها في مجالس الثقافة ولجانها. وأمَّا ذلك الأساس الأوَّل والأهم الذي أعنيه، فهو أن الينابيع الرئيسية للثقافة بمعناها الذي حددناه، إنما هي: الدين، والفن، والأدب، ثُمَّ الأفكار العقلية حين تُؤخذ من جانبها الذي يعمل مع تلك الينابيع الثلاثة، على إيجاد «موقف» أو «اتجاه» أو «رؤية» عند من يُحصِّلها. ولهذا التحوط الشرطي أهميةٌ لأن من المسائل التي تعترضنا ونحن نُفكِّر في شئون الثقافة، مسألة «العلوم» بشتى فروعها؛ الرياضية، والطبيعية، والاجتماعية؛ فهل ندرجها في مجال «الثقافة» أو أن لها شأنًا آخر؟ جوابي هنا هو أننا لا نُدرج منها إلا «مناهجها» و«قيمها»؛ لأن تلك المناهج والقيم هي التي تُعين على تكوين «نظرة» إلى الدنيا، ذات خصائصَ معلومة. وأمَّا «المضمون» العلمي نفسه، من معادلاتٍ رياضية، وقوانينَ عِلمية، فهي «معلومات» يعرفها المختص، لا يعرفها سواه، في حين أننا نريد للمختص وغير المختص «ثقافةً» مشتركة. وحتى إذا قدَّمنا للناس حقائقَ علميةً مبسطة، فذلك لأننا نستهدف أن يخلُص دارسها إلى «المنهج» الذي انطَوت عليه تلك الحقائق وطرائق تحصيلها.

لا أريد أن أترك هذه النقطة الهامة إلى ما بعدها، إلا إذا زدتها إيضاحًا؛ لأنها كثيرًا ما سبَّبَت لنا المتاعب؛ فلقد مرَّت علينا أعوامٌ كَثُر فيها الحديث عن الثقافة، ولكن بمعانٍ غريبة؛ فكان يُقال — مثلًا — إن الفلاح وهو ينفي القطن من الدودة، مُثقَّف بهذا العمل، وإن كل ذي حرفة مُثقَّفٌ بسبب إلمامه بتلك الحرفة ومهارته في أدائها، وهو كلامٌ لا يقوله إلا من اختلط عنده أمران؛ أولهما المعلومات والمهارات من جهة، والحالات الوجدانية أو الذهنية التي على أساسها تتكون نظرة الإنسان إلى دنياه من جهةٍ أخرى؛ فالأُولى «معرفةٌ» لا بُدَّ منها، لكنها تدخل في معنى الثقافة من ناحيتها التي نتحدث عنها. وأمَّا الثانية فهي الثقافة لأنها «وقفة» أو «رؤية» أو «نظرة» أو «اتجاه» لا يعتمد على معرفةٍ بذاتها دون أخرى، ولا على حرفةٍ بعينها دون أخرى.

ولكننا إذ نقول إن الثقافة بالمعنى الذي نريده، هي آخر الأمر «رؤية» تنشأ عند من تلقَّاها، كان أمامنا سؤال يتطلب الجواب، وهو: أليست تلك الرؤية المنشودة مرتبطة بنوع «المُواطن» كما نتمناه؟ وإذا كان ذلك كذلك، فما هي صورة ذلك المُواطن؟ فإذا ما اكتَملَت أمامنا صورته، سهُل علينا بعد ذلك أن نرسم الخطوات المؤدية إلى تحقيقها. وأظن ألَّا خلاف بيننا على أن العناصر المُكوِّنة للمُواطن المنشود، هي — أساسًا — أن يكون «مصريًّا» بكل ما تحتوي عليها تلك الصفة من مُقوِّمات أهمها الروح الدينية، والتعلُّق بالأسرة، والنظر إلى الوطن كله على أنه أسرةٌ كبرى. ثُمَّ أن يكون ذلك «المصري» «عربيًّا» بما يدل عليه ذلك الانتماء من لفتةٍ ثقافيةٍ لها طرازها الخاص، وهو طراز يتمثل في اللغة العربية، والفن العربي، وطائفةٍ من القيم التي يُعلي من شأنها العربي كلما تصور لنفسه مُثُلًا عليا ليقتدي بها. ثُمَّ أن يكون ذلك المصري العربي ذا نظرةٍ تتقبل العصر الحاضر في أهم مميزاته من علميةٍ صناعيةٍ وما يتفرع عنها من اتجاهات.

من هذه العناصر كلها نستطيع أن نُؤلِّف نمطًا ثقافيًّا، يكون هو الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه بشتى الوسائل المتاحة، وهو نمط تراه متحقِّقًا بالفعل في كثيرٍ جِدًّا من المُواطنِين؛ فليست هي حالةً نادرةً أن يُصادفك المُواطِن الذي هو مصريٌّ إلى أطراف أصابعه، وعربيٌّ إلى أطراف أصابعه أيضًا، ثُمَّ هو في الوقت نفسه لا يجد عُسرًا في تَمثُّل حضارة العصر هدفًا ومنهجًا. وإن شِئتَ فانظر إلى الرجال الأعلام في حياتنا على امتداد هذا القرن العشرين، تجد أغلبهم من هذا الصنف الذي تَجسَّد فيه النمط الثقافي المطلوب بعناصره الأساسية الثلاثة؛ المصرية والعربية والعصرية؛ طلعت حرب، طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم، أحمد زكي، علي مشرفة، محمد كامل حسين، وغيرهم كثيرون وإن تفاوت بينهم الدرجات.

إنه إذا ارتسم في أذهاننا هذا النمط الثقافي، كان علينا بعد ذلك أن ننظر في أساليب إخراجه وعرضه وبثه في الناس؛ كلمةٍ مطبوعة، وكلمةٍ مسموعة، وكلمةٍ مصورة. وفي هذا تكون مهمة اللجان بالمجلس الأعلى للثقافة، كلٌّ في مجال اختصاصه.

على أن هذه العناصر الأساسية الثلاثة؛ المصرية، والعربية، والعصرية، التي نريد لها أن تتلاقى مدمجةً في نمطٍ ثقافيٍّ واحد، تتطلب مِنَّا في إعدادها وعرضها، أن ننظر في اتجاهين؛ أحدهما أفقي، نستوعب فيه التفصيلات، فما هي تفصيلات الروح المصرية؟ وما هي تفصيلات الروح العربية؟ ثُمَّ ما هي تفصيلات روح العصر؟ وها هنا يقع العبء على كبار الدارسِين. وأمَّا الاتجاه الآخر فهو اتجاهٌ رأسيٌّ نتدرج فيه — عند عرضنا للمادة الثقافية — مع درجات الأعمار الثقافية من طفولة إلى شباب ثُمَّ إلى نضج الاكتمال.

هكذا — فيما أتصور — نُقيم في حياتنا الثقافية مضاعفًا مشتركًا بسيطًا يجعل المُواطنِين جميعًا ذوي رؤيةٍ واحدةٍ للأصول والجذور والأسس، ثُمَّ يكون لكل منهم بعد ذلك القسط المشترك ما ينفرد به من آراءٍ تتناول الفروع والتفصيلات. وبهذا نضمن ألَّا يختلف اثنان في ولاء المصري لمصر، وفي انتماء المصري لموروث الثقافة العربية، وفي الأخذ عن العصر علميةَ نظرته إلى المسائل العامة مع الاحتفاظ الكامل بفردية الفرد في حياته الوجدانية المُتمثِّلة في الإبداع الفني.

على أن بين هؤلاء المواطنين، الذين تهيَّأَت لهم رؤيةٌ عامةٌ مشتركةٌ مُقامة على قاعدةٍ ثقافيةٍ مشتركة، من يقف عند هذا الحد المشترك لا يرتفع عنه بحكم ظروفه. ومنهم كذلك من تُتاح له فرص الارتفاع فوق ذلك بدرجات متفاوتة. فإذا كان القسط المشترك من الدين — وهو أول ينابيع الثقافة كما ذكرنا — يقف بصاحبه عند ظاهر الشعائر وأساسيات العقيدة، فإن الدرجات التي تأتي بعد ذلك ترتفع بأصحابها إلى أعماق الفقه بالدين وأصوله. وإذا كان القسط المشترك من الفن، يقف بمعظم الناس عند التذوُّق الأعجم لمختلف صنوف الفن، من موسيقى وتصوير وتعبير، فإن فوق ذلك تأتي درجات من التذوُّق الناطق، بمعنى أن يكون المُتذوِّق للفن المعين على علمٍ بمواضع القيمة الفنية فيما يتذوقه. وكذلك قُل في الأدب وفي أُسس النظرة العلمية. وإذن فلا بُدَّ لواضع السياسة الثقافية أن تشتمل خطته على إنتاجٍ يتلقاه أصحاب الطوابق العليا. وعلى ذلك فليس صحيحًا أن تكون الثقافة كلها «للجماهير»، ولا هو صحيحٌ كذلك أن تقتصر الثقافة على أصحاب الدرجات المُتفاوِتة فيما هو أعلى من القسط المشترك.

وفي هذا كله لا يجوز أن ننسى حين نكون في مجال «الثقافة» أن «الثقافة» — وليس التعليم — هو هدفنا ووسيلتنا معًا. وأقول ذلك لما يبدو لي من أن القائمِين على اللجان الثقافية المختلفة — وكلهم من صفوة المُتخصصِين في ميادينهم — قد يميل بهم التخصُّص إلى الرغبة في إنتاج أعمالٍ «أكاديمية» أو ما يقرب منها، وهي أعمال مكانها الجامعات وما يشبهها؛ فعندئذٍ يفوتهم أننا ونحن في مجال الثقافة، إنما نستهدف آخر الأمر إيجاد «حالةٍ ذوقية» لا تكديس محصولٍ من المعارف؛ لأن ذلك هو واجب «التعليم».

والحديث في الثقافة يطول ويتفرع، تتقاطع فيه الأفكار وتلتبس المعاني، لكن محاولة التخطيط لها عن فهمٍ واضح، ثُمَّ إقامة بنيانها على أسس راسخة، تؤدي بنا إلى قَدْر من التجانُس يجعلنا شعبًا واحدًا وأسرةً واحدةً، هو أوجبُ واجبٍ على من يستطيع؛ فحرام علينا أن نكون نحن من نحن، عراقةً ثقافيةً وحضارة، ثُمَّ ينحرف بنا الطريق كما هو الآن مُنحرف؛ بحيث تتعدَّد فينا الرؤى، وكأننا عدة شعوبٍ متنافرة النظر، في جوف أمةٍ واحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤