حتى لا تنفرج الزاوية
لم يكد يستقر الجلوس بزائري، حتى أخذ فيما جاء يحدثني فيه، فقال: لقد أرسل إليَّ صديقنا فلان ما زعم لي أنها قصةٌ قصيرةٌ كتبها، ويريد أن أنقُدها له؛ فهذه أولى محاولاته في هذا الفن الأدبي، برغم تقدُّمه في السن، وغزارة إنتاجه في فروعٍ أخرى. فلم يكن في وسعي إلا تلبية الرجاء، لكني ما بَلَغتُ من القصة المزعومة ثلثها حتى أيقنت أن صديقنا لم يُرِد قصةً ونقدها، وإنما أراد خُدعةً يتستر وراءها، ليقول لي عن نفسي ما أراد أن يقوله، مما لم تُسعِفه الشجاعة أن يواجهني به يوم أن التقينا في دارك هنا، واحتَد بيننا النقاش.
كان حادًّا فيما كتبه عني حدة السيف، صريحًا صراحة الشمس في ظهيرة الصيف. وأَحسَستُ كأنما ألقى بما وصفني به حجرًا يدق رأسي لأستيقظ من سباتي إذا كان بي من سبات؛ وذلك أنه رسمني في صورة رجلٍ اعتزل الناس، وأَفلَتَ منه تيار الحياة، فنسج لنفسه من أوهامه رَواقًا يعيش فيه، لا يسمع إلا صوت نفسه، يحسب أن ذلك الصوت هو هتافٌ جاءه من جمهور المُؤيدِين.
الحق أن عهدي بصديقنا هذا أنه لا يسيء إلى أحدٍ عن عمد؛ فهو طويل الصمت، عف اللسان، لا ينطق بلفظٍ إلا إذا راجعه في طوية نفسه مرتَين، ليأمن الزلل. فما الذي دفعه إلى هذا الذي وصفني به، سوى أن يكون ذلك هو الحق كما يراه، ويريد نقلي من دنيا الأشباح إلى دنيا الوقائع؟ إنني وإن كُنتُ على اعتقاد بأني لست كما يصفني، إلا أنني تَلقَّيتُ كلامه كما يتلقى السائر في ظلام الليل سراجًا يهديه إلى جادة الطريق. ولقد وجدتني أَحفل بما يقوله عني في ثنايا قصته المزعومة، حتى لكأن كلماته حُفِرَت في نفسي كما تُحفَر النقوش المنحوتة في حجر الجرانيت.
ليس ما يؤرقني هو الفجوة التي يزعم أنها تفصل أوهامي التي أعيش في أباطيلها عن دنيا الناس والحوادث؛ وذلك لأن مثل هذه الفجوة إن كانت قائمة عندي، فهي على درجةٍ ضعيفة، لا تُخرجني عن جماعة الأصحاء الأسوياء، ولكن الذي يؤرقني حقًّا، هو يقيني بان صديقنا هذا أعمق فكرًا وأدق تحليلًا من أن يقذف بكلماته قذفًا جُزافًا. وإذن فلا بُدَّ لي من التساؤل: تُرى هل يريد من كلامه هذا شيئًا آخر لا يحب أن يفصح به، ويكتفي بالإشارة الرامزة من بعيد، وعلى القارئ أن يبحث عن المعنى الخبيء؟
هنا قَطعتُ أنا على المُتحدِّث حديثه، وسألته: وماذا في ظنك أنت يكون هذا المعنى الخبيء؟
أجابني بقوله: ربما أراد أن يرمز إلى «المصري» أو إلى «العربي» في مرحلته الراهنة، بينما يشهد التاريخ للمصري خاصةً وللعربي عامةً أنه ذو لمسةٍ واقعيةٍ يعرف بها أسرار دنياه المحيطة به؛ فقد يُخيَّل لصديقنا هذا أنهما يعيشان اليوم في أوهامٍ كثيفةٍ عن مجدٍ غابر، تحجُب عنهما الرؤية الصحيحة لما يجري قاب قوسٍ واحدةٍ أو أدنى.
ومضى الزائر في حديثه يقول: كانت «مدام بوفاري» — في رواية الأديب الفرنسي «فلوبير» — تتميز في بناء شخصيتها بصفةٍ بارزة، هي انفراج الزاوية بين أوهامها من جهة، ووقائع الدنيا من جهةٍ أخرى. ولقد أجاد فلوبير تصوير هذا الجانب إجادةً جَعلَت أن مجرد الإشارة إلى «مدام بوفاري» يكفي للدلالة على الهوة العميقة التي تقع بين أوهام الواهم وحقائق الواقع. وها هو ذا صديقنا في قصته المزعومة، يُكثر من الإشارة إلى مدام بوفاري، فلا يبقى أمامي إلا السؤال: تُرى من هو هدفه المقصود؟
ولقد أورد في غضون كلامه اسم «هانز أندرسون»، فلم أشُك في أنه يُشير بهذا إشارةً لا تخفى على العارفين، إذ يُشير إلى حكاية الملك الذي أوقعه المحتالون في وهمٍ عجيبٍ أعمى بصره وطمس على بصيرته؛ إذ أوهموه بأنهم نسجوا له قماشة لم تَرَ الدنيا مثيلًا لها، وأرادوا أن يُلبسوه ثوبًا يصنعونه من ذلك النسيج الفريد، وأهم ما يميزه هو أن العقلاء الأسوياء وحدهم هم الذين يستطيعون رؤية ذلك القماش، وأمَّا البُلهاء فلا يستطيعون ذلك.
تَوهَّم الملك أنه اكتسى بالثوب العجيب، وهو عُريان، وأمر فسار في موكبٍ حافلٍ يشق طرقات المدينة، ليراه شعبه وهو في زخارفه، فكان المُتفرِّجون يهمسون بكلمات الإعجاب والدهشة لجمال الثياب الملكية الفريدة، إلى أن صاح غلامٌ صغيرٌ إلى أمه: أين هي الثياب؟ إن الملك عُريان. وما إن قالها الغلام حتى سرت في الناس سريان البرق الخاطف: إن الملك عريان.
وتلك عجيبةٌ من عجائب الإنسان، وهي أن حقائق وجوده وحياته قد يُدركها الصبي الصغير بقلبه البكر وشعوره الصافي، كما قد يدركها الفيلسوف بعقله الجبار. وأمَّا من هم بين ذَينِك الطرفَين، فكثيرًا ما تحول شواغل دنياهم دون رؤيتهم لأبسط الحقائق عن طبيعة الإنسان. فالغلام الذي صاح بحقيقة أن الملك عُريان، شبيه بالفيلسوف ديكارت حين أعلن أنه موجودٌ بفكره قبل أي شيءٍ آخر، فكان الغلام وكان الفيلسوف، كلاهما، كأنما كشفا للناس عن سرٍّ مجهول.
وعودة إلى قصة صديقنا، وإبرازه للشخصية الإنسانية حين تنشطر بين وهم في داخلها وواقع في خارجها؛ فسواء أرادني أنا بقصته، أم أراد من ورائي أن يُصوِّر ما هو أهم وأعم، وأعني شخصية «المصري» أو «العربي» في مرحلته التاريخية الراهنة، فلقد استثارت القصة فكري، وهي — لأَمرٍ ما — تُذكِّرني بحقيقةٍ شاعت في عصرنا الراهن شيوعً واسعًا، كلما كان الحديث عن التفكير العلمي ومنهجه، وهي حقيقة لها مصطلحها الخاص في اللغات الأوروبية، حتى إذا ما أراد علماؤنا نقلها إلى العربية تفرقوا في الترجمة التي يختارها لها كلٌّ على حدة، ومن تلك الترجمات ما تنفر من سمعه أذني، وكان يمكن أن نتفق على مصطلح فيه الدقة وفيه النغمة المقبولة معًا. وأمَّا تلك الحقيقة المنهجية فهي تُشير إلى المراجعة التي من شأنها أن تُصحِّح مسار التفكير. فإذا عرض علينا صاحب فكرةٍ فكرته، ثُمَّ تركناه بغير مراجعة وتمحيص، فقد تكون تلك الفكرة منطوية على أخطاء، وبرغم أخطائها تسري في الناس وكأنها تنزيلٌ من التنزيل. وإذن فلا بُدَّ من مراجعةٍ ناقدة، تحمل صاحب الفكرة على تصحيح فكرته. أقول: إن لهذه العملية في اللغات الأوروبية مصطلحًا يُكثِّف محتواها في صورة من يتلقى غذاء من سواه، فيبادله — بدوره — غذاء بغذاء، فالأول يقدم إلى الثاني فكرة، فيرد له الثاني جميلًا بجميل، حين يُقدِّم له ما قد يراه في الفكرة من خطأ يستوجب التصحيح. تلك هي العملية المنهجية التي أشرت إليها، والتي اختلف علماؤنا في المصطلح العربي الذي يُصطلح للدلالة عليها. ولو كنت صاحب رأي، لاقتَرَحتُ أن نتخلص من صورة «الغذاء» ورد الغذاء، وهي الصورة الموجودة في المصطلح الأوروبي؛ لأنها — لأَمرٍ ما — لا تتفق مع الذوق العربي. ولماذا لا نقول عنها — مثلًا — «المراجعة للتصحيح» بكل ما فيها من بساطةٍ ووضوح.
ولقد اكتَسبَت هذه العملية المنهجية في التفكير العصري أهميتها، من كونها تجاوَزَت حدود التفكير العلمي الخالص، ونشرت فروعها في ميادينَ أخرى تمس الحياة والديمقراطية في قلبها وصميمها. فإذا لم يرصد الخبراء — كلٌّ في مجال اختصاصه — ما يُشاع فيهم من أفكار، رصدًا يُراجِع ويُمحِّص، ليردوا تلك الأفكار إلى أصحابها مُنقَّحةً مُصحَّحة، فسرعان ما تمتلئ حياة الناس بالأباطيل، ثُمَّ سرعان ما ينتقل الناس من موقف التهاوُن في النقد والتصحيح، إلى موقف «الخوف» من نقدها وتصحيحها.
قال المتحدث: معذرة، فلقد استطرد بي الحديث، حتى بعُدتُ عن قصة صديقنا؛ فقد جاءتني بمثابة العملية المنهجية التي حدثتُك عنها، والتي تُوجِب مراجعة الأفكار السائدة بيننا ابتغاء التصحيح إذا احتوت على ما يتطلب مثل هذا التصحيح.
ومرة أخرى قَطَعتُ على المتحدث حديثه، لأسأل: كأني بك يا صاحبي تفزع إذا قال لك قائل إنك تعيش في أوهام نسجتها لنفسك بخيالك؟ إنه لو كانت الأوهام (والأحلام ضربٌ منها) تُنزل بالإنسان كل هذا الأذى، لما فُطِرَت عليها طبيعته. أتُحب للطفل — مثلًا — أن يبرأ من أوهامه، حتى لا يحسب العصا التي يركبها جوادًا؟ وإذا كان لا بُدَّ للطفل من حياة الوهم، أفليس يكمُن في كل إنسانٍ راشدٍ ذلك الطفل الذي كان؟
الأوهام — يا صاحبي — هي وجباتٌ طهوناها لأنفسنا على أية صورةٍ نشتهي. ماذا يكون مصير الإنسان إذا لم تكن في حياته أحلام؟ وإنني لأعني الأحلام بنوعَيها؛ أحلام اليقظة وأحلام النوم؛ فكم من عاشقٍ روى ظمأه في أطياف الحلم، وكم من مغلوبٍ على أمره في الحياة الواقعة كان نصيبه في أحلامه دَور الغالب الظافر.
ضحك صاحبي وأجاب: إنني لأعلم بأن صحراء الحياة إذا لم يَتخلَّلها واحات الوهم والحلم، لأصبحت جحيمًا قبل يوم الحساب. وهل الفن كله إلا وسائل يلوذ بها الإنسان إلى صورٍ من أحلامه ليُصحِّح بها ما يفسد الحياة الواقعة؟ كل ذلك مفهوم ومقبول، فلا ضَيرَ فيه إذا كان للحلم ساعته وللصحو الواعي ساعات. ومن ذا يُوجِّه اللوم إلى مدام بوفاري لو أنها واجَهَت واقع حياتها معظم أحيانها، ثُمَّ خصَّصَت حينًا تسرح فيه بأوهامها؟
على أن ما هزَّني من الأعماق، فيما قرأته من القصة المزعومة، هو ظني بأن صديقنا — بعمق فكره ودقة تحليله — إنما يُصوِّر شعوبنا في جملتها، ولا يقصد إلى فردٍ بعينه. وإذا كان ذلك هو مرماه، كان الأمر عندي جديرًا بأن أحضُر إلى دارك، لنتعاون على التماس السبل، التي نحُد بها من جنوح الناس نحو أوهامٍ يصنعونها ليستدفئوا بها، حتى لا تنفرج بنا الزاوية.