لا … لن أكسر مغزلي
لستُ على يقين بالظروف التي أحاطت بالإمام أبي حامد الغزالي، والتي ضاقت لها نفسه، حتى قال ضمن أبيات من الشعر هذا البيت، الذي لا يزال يتردد ذكره على ألسنة الناس، كلما أحس القائل ضيقًا كالذي أحسَّه الغزالي، حين صادفه ما صادفه من جحود. والبيت المقصود هو الذي يقول فيه:
فإذا فرضنا أن دروسه التي كان يُلقيها في الفقه وغيره، وهو بعدُ في بغداد لم يرحل عنها، هي بمثابة الخيوط التي غزلها «لهم» (ومن هم؟) فما هو «النسيج» الذي توقَّعه ولم يجده؟ وهل يشير بتكسيره لمغزله إلى أنه ترك التدريس يائسًا من جدواه؟ إننا نعلم في تاريخ حياته، أنه تعرض في أزمة حادة من الشك، وذلك حين أدرك أنه إنما يُلقي دروسه الدينية على صورةٍ تُقنع المؤمن، ولكن ماذا لو كان الذي يستمع إليه من غير المُؤمنِين؟ كيف يسوق له الحجة؟ وهنا ثقُلَت عليه المشكلة حتى تأزَّمَت. ولم يجد لنفسه بُدًّا من ترك بغداد، ليظل في تجوال، يرتحل فيه حينًا، ويحط رحاله ليقيم حينًا هنا أو هناك، حتى يهديه الله إلى جوابٍ يقتنع به، على السؤال الذي كان قد طرحه على نفسه وعز عليه الجواب، فلما اهتدى إلى اليقين بإذن الله، عاد إلى بغداد صحيحًا مُعافى.
أقول إننا نعلم ذلك عن الغزالي (واقرأ له في ذلك رائعته في كتابه «المنقذ من الضلال»، تقرأ فيه آية الأدب الفلسفي في تاريخ الفكر الإنساني جميعًا)، لكن هذا كله لم يكن هو الدافع لضيقه الذي عبَّر عنه في بيت الشعر الذي أسلفناه، والذي يُصرح في وضوح لا لبس فيه أن سبب ضيقه هذه المرة لم يكن مشكلةً أقامها هو لنفسه ثُمَّ لم يجد لها جوابًا، بل كان متعلقًا بآخرِين، قدَّم لهم غَزْله الدقيق، ولكنه لم يجد فيهم نسَّاجًا ينسجه، فأخذه يأس، وكسر مِغزله. ولعل هذه الصورة تزداد عُمقًا، لو ذكرنا أن والد الغزالي كان «غزَّالًا» (بتشديد الزاي) لحضور مهنة أبيه إلى ذهنه ساعة التصوير الأدبي، يُذكِّرنا بسقراط حين تَصوَّر توليد الأفكار شبيهًا بنحت قطعة من الحجر لاستخراج التمثال الكامن فيها؛ فها هنا نراه يستعين بفن النحت الذي كان حرفة أبيه، وبالتوليد الذي كان حرفة أمه.
لكن لا علينا من ذلك، ولنعد إلى إمامنا الغزالي، الذي كسر مِغزله حين لم يجد لغزله نسَّاجًا بين من قدَّم لهم ثمرة جهوده، لأقول إنني وإن كنت لا أزيد على حصاةٍ ضئيلةٍ إلى جانبه ذلك الجبل الشامخ، فقد تملَّكَتني منذ زمنٍ طويل، عادةُ أن أتمثل ببيت الغزالي كلما انتابتني لحظة يأس، لا أكون أنا مَصدَرها وباعثها، بل يكون الآخرون هم هذا الباعث وذلك المَصدر، بما يُسمِعونني إيَّاه من كلمات التثبيط والتهوين.
فكأنما سُلِّط بعضنا على بعض، كلما نشِط مِنَّا ناشطٌ بما ظنه نافعًا له وللناس، تصدَّى له من يُطفئ جذوته — إذا استطاع — والأغلب أن يكون ذلك المُتصدِّي ممن خَلَت يداه من أي شيءٍ يتقدم به يوم الحساب. وكان آخر ما سمعته في هذا الباب، هو الحُكم الذي ألقاه في سمعي من ألقاه، محاولًا — بكل ما يتمتع به من لباقة حديث — أن يضع جهودي العلمية والأدبية كلها، التي امتدت على الزمان ما يزيد على خمسين عامًا، في ركنٍ معتم، تكاد لا ترى شيئًا منه أبصار العابرِين.
ولقد عَرفتُ في نفسي على طول السنين، نمطًا من السلوك يتكرر معي مرةً بعد مرة، وهو نمط أوله ضعفٌ شديد وآخره عزيمةٌ أشد وأقوى؛ فلستُ أدري على وجه الدقة، ماذا كان العامل الرئيسي — أو العوامل التي كانت أكثر من عاملٍ واحد — ذلك الذي صادف طفولتي، فشكَّلَني فيما جاء بعد ذلك، تشكيلًا جعلني ألوذ بالانزواء، كلما تلقيتُ من الأيام ضربة، حتى ولو لم تزد تلك الضربة على رفيف جناحٍ من بعوضةٍ متهافتة، لكنني كلما انطَويتُ على نفسي مرة، خرجتُ من الانطواء أمضى عزيمة على مواصلة السير، يعينني على ذلك ما أنعم الله به عليَّ من صدقٍ مع نفسي وقناعةٍ ترضى بالقليل. ومن هنا كان من أعسر العُسر على أحد من عباد الله أن يلقاني أمامه باسطًا له كف الضراعة، مهما بَلغَت قُدرته على العطاء إذا أعطى، وعلى الإيذاء إذا آذى.
فلما لحق بي صاحبي على الطريق، ليُسمعني عبارة التهوين والتصفير، مُغلَّفةً بغطاءٍ فيه قليلٌ من حلاوةٍ تحُد من مرارة المرمي، عُدت إلى داري بطيء الحركات خافت الصوت. وكان أول ما استحضرته الذاكرة عندئذٍ، فصلٌ ورد في «منطق الطير» لفريد الدين العطار، عنوانه «في وصف الاستغناء»، فلقد صوَّر ذلك الصوفي العظيم طريق السالكِين (والسالكون في هذه الحالة هم جماعة الطير) وديانًا تتلاحق، فكلما قطع السالك واديًا منها ظهر له وادٍ آخر، ومن تلك الوديان وادٍ يُطلِق عليه فريد الدين اسم «وادي الاستغناء».
نهَضتُ من فوري، وأَخرجتُ «منطق الطير» من خِزانة الكُتب، وحملتُ معي منظار التكبير، وبحثتُ في الكتاب عن وادي الاستغناء لعلي أتزود منه بزادٍ يشد من أزري، وقرأتُ وأرهفتُ خيالي ليُجسِّد لي ما أقرؤه، فيجعله وكأنه واقعٌ أعيش فيه؛ فها أنا ذا في الوادي أشعر بالريح عاتيةً في شدتها وسرعتها حتى تمحو كل شيء! فالبحار السبعة قد تضاءَلَت حتى صارت بركةً صغيرة، والكواكب السبعة قد خَفتَت حتى لم يعُد من نارها إلا ومضة ضوء، وذَبَل الزرع ومات، وتحوَّلَت النيران السبعة إلى أعمدة من ثلج. وها هنا ضعُف القوي وقوِي الضعيف، حتى أَضحَت النملة في قوة مائة فيل. وليس لأحد أن يسأل: كيف؟ ولماذا؟ فليس من بأسٍ هنا أن تفنى مائة قافلة ليملأ حوصَلَته غرابٌ واحد.
ليس في وادي الاستغناء فرق بين قديم وجديد؛ فها هنا تُخنق الشهوات، فلا رغبة لراغب. ها هنا أستعيد كل ما رأيته في الدنيا، فإذا هو الحُلم. إن ألوف الأنفس أراها تسقط في البحر اللامتناهي، فتبدو — جميعها — وكأنها قطرةٌ واحدة من قطرات الندى. وأرى أفلاك السماء ونجومها تهوي ممزقةً إربًا إربًا، فإذا هي — كلها — وكأنها ورقةٌ واحدة سقطت من شجرة. لقد رأيتُ الكون كله وقد تحوَّل إلى عدم، فهل رأيتُ أكثر من نملة عَرجَت لها ساقٌ في جوف بئر؟ لقد بدا زوال العالم وكأنه حبةُ رمل واحدةٌ طارت عن أرضها. البشر جميعًا يَفنَون وكأنهم قطرةٌ واحدة من ماء المطر. إنهم يصيرون ترابًا وكأنه لم يحدث سوى أن سَقطَت شعرةٌ واحدة من كائن حي، أو سَقطَت ورقةٌ واحدةٌ من شجرة تين.
ذلك هو وادي الاستغناء كما تَصوَّره وصوره فريد الدين العطار. فهل يسعك أن تحيا فيه لحظة، دون أن تخرج من قراءتك وقد استصغرت كل شيء؟ لكنني لا أحب لنفسي مثل هذا الشعور إلا كما يجرع المريض دواءه ليشفى. إن الصغار العوابر من حياتنا تهزُّ قلوبنا وتَقلِب أمعاءنا — كما فَعلَت معي العبارة الحُلوة المُرة التي صبَّها صاحبي في أذني ليؤذيني، فإن حدث ذلك، جاءت قراءة «وادي الاستغناء» أو ما يشبه علاجًا شافيًا، نعود بعده إلى حياتنا وقد اتخذ كل شيء نسبته الصحيحة؛ فالكبير كبير، والصغير صغير. ولو كان لدينا نقد ونقاد، لأقاموا بيننا الميزان، فعرفنا من مِنَّا يرحل وكتابه بيمينه، ومن يذهب عنَّا بغير كتاب.
ماذا تصنع أقلامنا إذا لم تجاهد حتى يعتدل على سِنانها ترتيب القيم؟ ففي حياتنا قيم — هذا صحيح — لكن أسفلها قَدْرًا موضوع بأعلاها، وأعلاها أنزلناه حتى بات أسفلها. ألم نرفع من شأن النفوذ والجاه والسلطان حتى جعلنا لها قمة القمم، ثُمَّ ألم نهبط بقيمة العمل حتى جعلناه أرضًا تدوس عليها الأقدام؟ فماذا تصنع الأقلام إذا هي لم تُغيِّر عقولنا ونفوسنا، فتتغير هذه الأوضاع.
لقد قالت لي فتاةٌ عربيةٌ وهي تحدثني عن أوضاع الحياة في وطنها: إن العربي الأصيل يَترفَّع بحكم ميزانه الثقافي على أي عمل يؤديه بيدَيه، ويكل إلى غيره أن يؤديه له. قُلتُ لها: هكذا كانت كل شعوب الدنيا في العصور الأولى؛ فهكذا كان اليونان أنفسهم، الذين اشُتهروا في التاريخ بالوقفة العقلية التي تكاد تخلو من شوائب الانفعال، لكن تغيَّرَت الشعوب مع تغيُّر الحضارات، إلى الدرجة التي أصبح الحكم في أيدي من يعملون بالأيدي. وأمَّا العربي فقد اختار لنفسه — فيما يبدو — ألا يتغير في قيمه مع تغير الظروف. فمن ذا ينقل العربي من أنَفَةٍ كاذبةٍ تريد الكلام ولا تريد العمل إلى وقفةٍ أخرى يعكس بها المعايير، إلا الكاتب وقلمه؟
لا، لن أكسر مِغزلي، وحتى ولو لم أجد نسَّاجًا لغزله. وتحضرني قصيدة للشاعر الإنجليزي وليم بليك، الذي عاش في فترة انتقال الحضارة من حياة الريف والرعي والزراعة، إلى حياة المدن والعلم الصناعة، وكان رومانسي النزعة، يُؤثِر المُروج الخُضر على مداخن المصانع، فصمم على أن يقاوم. وبماذا يقاوم؟ إنه لا يملك سوى شعرٍ وقلم. إذن فبالشعر يقاوم وبالقلم. وفي قصيدةٍ له عنوانها «ملتن» يقول ما معناه: لن أكف عن الجهاد بفكري، كلا ولا سيفي سيرقد خاملًا في يدي … حتى أردَّ بلادي إلى مُروجها الخضراء.
وليس المهم هنا هو: من أجل أي شيء يجاهد الشاعر أو الكاتب، وإنما المهم هو أن يجاهد بفكره وقلمه ليحدث التغيير الذي يريد أن يُحدثه.
وإني لأحمد الله أن كانت لي رؤيةٌ واضحةٌ عِشتُ على ضوئها حتى يومي هذا ما يزيد على أربعين عامًا، وكانت هي مدار كتابتي طوال تلك الفترة، عارضًا لها من زواياها المختلفة، دافعًا عنها أباطيل الذين هاجموها دون أن يقرءوا في رويةٍ وفهمٍ صحيح. وأستطيع أن أُلخِّص موقفي في بضعة أسطر، فأقول إن حياة الإنسان الواعية تتبادلها نظرتان، لكل نظرةٍ منهما لحظتها، ولكل لحظة مقوماتها؛ أمَّا إحداهما فهي حين يكون الإنسان على صلةٍ عملية أو علميةٍ مباشرةٍ بشيء من كائنات الواقع. وأمَّا الأخرى فهي حين يخلو الإنسان إلى نفسه وإلى ربه، ليعلو على ذلك الواقع، إذا صح لنا أن نقول ذلك. فإذا ما كان الإنسان في لحظته العملية أو العلمية لم يكن له بُدٌّ من أن يركن إلى التجربة المُؤسَّسة على إدراك حواسِّه من بصر وسمع وغيرهما. وأمَّا إذا كان في لحظته الثانية، فها هنا تكون الكلمة الأولى لقلبه ووجدانه.
وإن مثل هذه الرؤية المزدوجة، لتتفق أَتمَّ اتفاقٍ مع ثقافة المصري التي تراكَمَت له عبر القرون؛ وذلك لأن المصري في حياته العملية صانع وزارع، وكان محالًا عليه أن يمارس صناعته وزراعته، إلا إذا كان مُرهِفًا حواسَّه للمادة الخارجية التي يُعالجها؛ فهو لم يمارس صناعته في هواء، بل مارسها في حجر وحديد وذهب وبرونز؟ وهو كذلك لم يمارس زراعته في خلاء، بل مارسها على تربةٍ حقيقةٍ لها خصائصها المُعيَّنة عند الحرث والري وبذر البذور وجمع الحصاد.
لكن المصري لم يستغرق حياته كلها في صناعته وزراعته، بل هو إلى جانب ذلك — بل فوق ذلك، وقبل ذلك، وأهم من ذلك — يجاوز حدود الواقع المصنوع والمزروع، ليُخلص الصلة بقلبه وبربه. ولقد تَعدَّدَت الديانات خلال تاريخه الطويل، لكنها على تعدُّدها ديانةٌ يعبد بها خالقه، كما تَعدَّدَت أشكال فنونه مع تعدُّد عصوره، لكنها كانت كلها فنونًا يصُبُّ فيها مشاعره كما أحسها في نفسه.
فليس الجمع في حياةٍ واحدةٍ بين لحظتَين تتبادلان السيادة، مسألةً فلسفيةً نظريةً وكفى، بل هي وصف للحياة كما نحياها، ولكن إذا كانت هذه المزاوجة بين عقل وحرمان هي ما يحياه الإنسان عامة، والمصري بصفةٍ خاصة، ففيم العناء في الدعوة إليها، ثُمَّ لماذا تَلقَى المعارضة أحيانًا؟ جوابي هو أن هذَين الجانبَين، على ضرورة وجودهما معًا، إلا أنهما يتفاوتان طولًا وقِصرًا مع المناخ الثقافي الراهن. وإنهما ليتعادلان في فترات القوة، ويختل بينهما ذلك التعادُل في فترات الضعف. وظني هو أن مناخنا الحاضر قد اقتضى زيادةً في طول الضلع الوجداني، وانكماشًا في الضلع العقلي والعملي. ومن هنا جاءت دعوتي إلى وجوب التوازُن. ومن هنا أيضًا جاءت المعارضة.
وعلى أية حال فهي وجهة نظر تستحق المتابعة والإلحاح، فإن اعترضَني من يستخف بالمسألة وبجوابها، أَسرعتُ بدوري إلى كسر مغزلي؟ اللهم لا. لن أكسر مغزلي؛ فالحياة — كما قال شوقي — عقيدة وجهاد.