كيف يولد طاغية
كان حوارًا جميلًا بيني وبين غلام يتوقد ذكاءً في نحو السادسة عشرة من عمره، لكن ذكاءه يسبق عمره بسنوات. جاء ليسمر معي كما يجيء مع ذويه حينًا بعد حين كلما جاءنا هؤلاء للزيارة. وأني لأفرح بقدومه فرحة الزميل يلتقي بزميله؛ فأنا أحب حديثه كما يحب هو حديثي وكأننا صنوان لا تفصل بينهما ستون عامًا. فنحن إذا ما رَبطَت بيننا أواصر الحديث كُنَّا بمثابة البرهان القاطع نقذف به في وجه من يتحدثون عن صراع الأجيال؛ فقد تكون الأجيال متصارعة في سائر الأرض. وأمَّا في مصر فالأجيال موصولٌ بعضها ببعض، تتعاقب كأنها الموجات المُتلاحقة على سطح النيل وهو ينساب في جلاله ووقاره غير عابئٍ بفواصل السنين.
أمَّا حب الفتى الذكي لحديثي فلأنني لا أسوق في عبارتي كلمةً واحدةً تُشعره بأنه صغيرٌ يتحدث إلى كبير. ولماذا أفعل؟ إنه في الحق وإن يكن صغيرًا في عمره فهو كبير في فكره. وأمَّا حبي أنا لحديثه فلأنه قلما يجيء ووفاضه خالٍ من اللمحات اللوامع يعرضها في براءة، وهي في حقيقتها لمحاتٌ تستوقف الفكر بغزارة مدلولها.
وكان آخر ما رواه لي من لمحاته تلك أن قال: كان عندنا في البيت قليلٌ من مخزون الأرز، وفُوجئَت أمي ذات صباح أن بللًا قد أصابه من ماءٍ رشح به جدار الغرفة المرطوب، فأَسرَعَت إلى نشره في الشرفة الخارجية ليجف بشمسها وهوائها، وطلبت إليَّ مراقبته، فجلَستُ خلف زجاج النافذة بحيث يكون الأرز المنشور على مرأى مني، فما هو إلا أن حط عصفور على مقربةٍ قريبةٍ من الأرز. ولأمر ما وجدتني ألزم جلستي الساكنة أُوثِر أن أرقُب العصفور كيف يسلك إزاء الغنيمة بل أن أحمي الأرز من اعتدائه. فلَحَظتُ يا عمي في العصفور أمرًا عجيبًا إذ أخذ العصفور يَتلفَّت بحركةٍ سريعة هنا وهنا قبل أن يُقدِم على التقاط الحب، كأنما أراد أن يستوثق من غيبة الرقيب، حتى إذا ما اطمأن بعض الشيء خطا خطوتَين في حذرٍ شديدٍ وأصبَحَت حبات الأرز على مَلقَط منه، لكنه على ذلك تريَّث لحظة وراح من جديد يَتلفَّت يَمنةً ويَسرة وإلى الأمام. ولعله لم يجد حوله ما ينذر بالخطر فالتقط حبةً واحدة بلقطةٍ سريعة كادت تسبق بسرعتها سرعة البصر. ثُمَّ سكن لحظة وعاد يَتلفَّت ليرى ماذا عسى أن يدهمه من أسباب. فلما لم يجد إلا الهدوء والأمان انكَبَّ على الأرز يلتهم منه ما ملأ حُويصلته وطار.
قُلتُ للفتى مداعبًا ولماذا تركت العصفور ينهب من أرزكم ما شاء أن ينهب مع أنك قد جَلَستَ إلى جواره لترقبه وتحميه؟ فأجاب الفتى: وَجَدتُ في دراسة العصفور ما هو أغلى من بضع حبات الأرز. ولقد تَعلمتُ كيف يبدأ المُعتدي بالحذر والخوف حتى إذا ما أَمِن مَغبَّة الاعتداء مَلَأَته الشجاعة فأقبل على العدوان بكل قدرته وهو مطمئنٌّ آمنٌ أو قل إنه كالمطمئن الآمن لا يحول شيء بينه وبين السير في شوطه إلى آخر المدى. لقد وَجدتُ في هذا الدرس أتعلمه من العصفور مُتعةً تفوق ألف مرة ما ضاع علينا من الأرز. ولو عَلِمَت أمي بالأرز الضائع وأنحت عليَّ بلائمةٍ أجبتها: لا عليكِ يا أمي أنقصي من نصيبي في الأرز مِلعَقة.
سأَلتُ الفتى الذكي قائلًا: وماذا كان مضمون الدرس الذي تعلمته من العصفور والأرز؟ فأسرع الفتى بالجواب: هو أن سكوت صاحب الحق المنهوب سرعان ما يجعل الناهب صاحب حق في الاعتداء. ذلك على الأقل في عالم الطير. وقد يكون الأمر كذلك في عالم الحيوان بأجمعه. ولست أدري ماذا تكون الحال في عالم الإنسان.
قلت للفتى: تُرى هل قرأت الكتاب الصغير الذي أعطيتك إياه منذ بضعة أشهر وفيه مجموعة من حكاياتٍ هندية؟ فقال الفتى: نعم قرأته. قلت له: حاول أن تتذكر حكاية منها عن أطفال وثعبان لنرى معًا هل تدل الحكاية على شيء في هذا السبيل …
انتفض الصبي واقفًا وقفة ظافرٍ منتصر وقال: نعم، نعم؛ فهي حكاية تحكي عن فقيرٍ هنديٍّ عابد انتبذ لنفسه مكانًا مهجورًا وهناك لحَظ على مر الأيام ثعبانًا ضخمًا كيف يتربص لفرائسه فقال له العابد الفقير لماذا لا تُعلن التوبة من هذا الشر لتفوز بالرضا والسكينة؟ فاقتنع الثعبان بالنصح وتَحوَّى في ركن من أرضٍ خراب يأكل ما يقذف به إليه المارة. وذات يوم جاء أطفالٌ يلعبون فما إن رأوا الثعبان ملتفًّا على نفسه جنب الحائط حتى أسلموا سيقانهم الصغيرة للريح. ثُمَّ عادوا في الصباح التالي ليجدوا الثعبان على ما رأوه به يوم أمس فتَشجَّع منهم طفلٌ وقذف الثعبان بحجرٍ واحد وجروا جميعًا فازعِين. وكان اليوم الثالث وكان الثعبان على استكانته، فتَشجَّع أكثر من طفل ورمى كلٌّ منهم أكثر من حجر. وهكذا اطمأن الأطفال مع الأيام أن ليس لعدوانهم ما يرده، فكانوا يمطرون الثعبان بوابلٍ من الحجارة فذهب إلى حيث الفقير العابد وشكا إليه ما يلقى، فقال له الرجل: امض في استسلامك على أن تتحرك آنًا بعد آن بما يُخيف الأطفال ولك في ذلك ثوابٌ هو أن يَكفُّوا عن العدوان.
قلت للفتى: أرأيت أن الأمر في عالم الإنسان كما هو في عالم الطير والحيوان؟ إنها فطرةٌ لا يُلجمها إلا أن يُصادِفها من يضع لها الشكائم فتقف أمام المعتدي الذي لا يجد لاعتدائه رادعًا فسيمضي في طريقه آمنًا مطمئنًّا. وإن اللحظة التي يدرك فيها أن ليس لِعُدوانه رادع لَهي اللحظة التي يتحرك في أحشائه الطاغية الكامن في فطرته. ألا إن الإنسان لَيطغَى إن رآه قادرًا على الطغيان وهو آمن.
سألني الفتى في دهشة: ولكن هل هناك من الناس من يترك حقه نهبًا لغيره وهو عامد؟ فأجبته: نعم يا ولدي هم يُعدُّون بالملايين. ولولا هؤلاء لما شهد التاريخ طغيانًا ولا طغاة. لماذا تركت أنت أرزكم ليملأ منه العصفور جوفه ويطير سالمًا غانمًا؟ قال الفتى فعلتُ ذلك حسبانًا مني بأن المعرفة المكسوبة ترجع الأرز الضائع. فابتسمتُ له مشفقًا وقلت: هي أعذارٌ ينتحلها الخاسر حتى يُوهِم نفسه بأنه إنما ضحَّى بالقيمة الأدنى ليظفر بالقيمة الأعلى. لقد حدث لي يا بني لا أقول مرة أو مرتين أو عشر مرات بل هي مواقف لا أستطيع حصرها أن بدأتُ التعامل مع أطرافٍ أخرى فيبدأ من أعامله بالحذر والحساب، لكن لا يلبث أن يُدرك تهاوني في حقوقي فيُسرع إلى انتهاز الفرصة ويُمسِك باللجام ويضع الشكيمة وإذا هو الطاغية قد وُلد له الأمر والنهي والقيادة، فأقول لنفسي مُتعزيًا: لقد تنازلت له عامدًا التماسًا لراحة البال واكتسابًا للوقت الذي أفرغ فيه للعمل. إنها أعذارٌ نَتعلَّل بها يا بُني لا تنفي أن يكون الطاغية قد أمسك بالصولجان. قال الفتى: أرى أن هذه حالاتٌ فردية في دنيا التعامل والأخذ والعطاء ليست هي ما تُستخدَم له كلمات الطاغية والطغيان أليس كذلك؟ قلت له: صدقت لكن لا فرق في الحقيقة؛ فالقاعدة التي أريد أن أضعها بين يدَيك هي أنه حينما فرَّط إنسانٌ في حقه ظهر لذلك الحق طاغيةٌ يستبد به.
قال الفتى: ما زِلتُ — يا عمي — في حَيرة من الأمر لا أتَصوَّر كيف يضع المرء حبل العبودية حول عنقه بيدَيه ثُمَّ يسلمه إلى من يستبد به ويطغى. أجبته قائلًا: إن الأمر ليسهل إدراكه إذا عَلِمتَ أن الحرية حملها ثقيلٌ على عواتق الناس. نعم إنك لترى الإنسان دءوبًا في المطالبة بحريته في الفكر والعمل حتى إذا ما ظَفِر بها استسهل أن يدع الفكر والعمل لسواه؛ فأيسر عليه أن يأخذ الفكرة عن غيره جاهزةً وأن يترك غيره ليضع له خطة العمل.
إنني أعلم عنك حبك للقراءة وسأذكر لك موضعَين تجد فيهما شرحًا مستفيضًا لهذه الحقيقة في طبائع الناس؛ فرد من الناس أو شعب بأَسْره يسترخي لحظةً عن تحمُّل تبِعات حريته ومسئوليته، فيتولد له في ذات اللحظة مُستبدٌّ يمسك بزمامه. وأمَّا الموضعان اللذان أشرت إليهما فهما كتابان ستجدهما في مكتبة أبيك؛ أولهما الخوف من الحرية ومؤلفه أربك فروم، والثاني كتاب الجمهورية للفيلسوف اليوناني العظيم الذي لا بُدَّ أن تكون قد سمِعتَ عنه.
ابدأ بجمهورية أفلاطون وإذا شِئتَ اختصارًا للزمن بسبب انشغالك بدروسك، فاقرأ الفصل الثامن فهو هناك يُقدِّم تحليلًا بلغ الغاية في الدقة والوضوح يُبيِّن به الخطوات المُتدرِّجة التي تؤدي إلى ظهور المستبد في دنيا السياسة؛ ففي المجتمع الواحد قلةٌ قليلةٌ تختار السياسة عملًا لها وهذه القلة بدورها تشبه ذكور النحل في الخلية بعضها يلدغ والآخر لا قِبَل له على ذلك فيتجمع العسل كله للادغِين وتبقى أكثرية الشعب لا تدري في أمر السياسة أين الرأس وأين الذنب؛ لأنها تُصفِّق كلما خطف أبصارها بطل؛ فها هنا يكون منبت الاستبداد والمستبد لأنه يتقدم لحماية تلك الأكثرية الغافلة يُلقي عليها من البسمات ما تلين له القلوب فتُقدِّم له الطاعة اختيارًا. وفي هذا الموضع من مراحل التطوُّر تتحقق أسطورةٌ قديمةٌ كانت شائعةً معروفةً عند اليونان وهي أسطورة من يأكل شيئًا عن اللحم الآدمي ممزوجًا بمختلف القرابِين يتحول إلى ذئبٍ يستمرئ شرب الدم …
اقرأ يا بُني هذا الجزء بعناية تعلم على وجه اليقين كيف ومتى يُولد في الناس مستبد. وما دُمتُ قد ذَكرتُ لك مادة للقراءة فلا بُدَّ لي أن أَلفِت نظرك منذ الآن إلى آيةٍ كبرى ظهرت في عالم الفكر المصري المعاصر وعملاقها هو الراهب في محراب العلم الدكتور جمال حمدان، وذلك في مؤلفه الضخم شخصية مصر ظهر منه حتى اليوم جزآن ونحن موعودون بجزءٍ ثالث. وأخيرًا ضع هذا الكاتب ومُؤلَّفه في ذاكرتك يا ولدي حتى يُتاح لك أن تغترف منه العلم والصبر معًا. إن أحدًا مِنَّا لم يعُدْ يستطيع أن يعُدَّ معالم الحياة المصرية في نهضتها الحديثة دون أن يذكر هرمها الأكبر وهو هذا المؤلف الجبار. وقد يكفيك الآن أن تقرأ فصلًا واحدًا يدور حول ما كُنَّا نتحدث فيه وهو الفصل الثاني والعشرون وعنوانه «من الطغيان الفرعوني إلى الثورة الاشتراكية».
قال الفتى وقد همَّ بالانصراف: لقد كانت في حوار اليوم شموعٌ مضيئة.
قلتُ مجيبًا: لئن كانت الشموع من عندي فأعواد الثقاب التي أشعَلَتها كانت من عندك. وهكذا تتعاون في مصر أجيالها المتعاقبة أخذًا وعطاءً. إنه موقفٌ حضاريٌّ خالدٌ لمصر أكثره تعاوُن وأقله صراع.