قلم يتوب
عُدت إلى أوراق كتبتها على فتراتٍ متباعدة، لأرى كم ثبت مني وكم تغير؟ فوَقَعتُ على صفحات كتبتها يوم الإثنين الثامن والعشرين من ديسمبر سنة ١٩٥٣م، إثر زيارتي لمتحف الفن (المتروبوليتان) في نيويورك. وبعد أن أَطَلتُ الوقوف عند المعرض في القسم المصري، وهو أول ما يصادف الزائر، ويقع في عشر غرفٍ متجاورةٍ تُؤدِّي الواحدة منها إلى الأخرى، خَتمتُ بقولي: «امتَلَأتُ اليوم زهوًا، بقَدْر ما أُفعِمتُ حسرةً على أن يكون هذا هو ماضينا المصري، ثُمَّ نملأ الدنيا صياحًا بأننا عرب! إن عظمة الشعوب هي في فنونها وعلومها. وقد ترك المصريون هذا التراث الفني الضخم، الذي يملأ متاحف العالمِين، فماذا ترى في المتاحف من آثار العرب؟ أفبعد هذا الماضي المصري المجيد، نلقي بكنوزنا في جوف البحر، ونُغمِض عنه أعيننا، ونُصِم آذاننا، لنقول للدنيا بأفواهٍ تتساقط منها خيوطٌ من لُعاب البلاهة والخبَل: نحن عرب؟»
ثُمَّ مضيتُ أَنبُش في أوراقي القديمة، فوَقعَت عينيَّ على هذه الفترة من مقالةٍ كُتبَت قبل اليومية السالف ذكرها بنحو عشرة أعوام، وهي فقرة أقول فيها: «إنني في ساعات حُلمي، أحلُم لبلادي باليوم الذي أتمناه لها؛ فإنما أصورها لنفسي وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون (والإشارة هنا إلى شعوب أوروبا)، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون، لنُفكِّر كما يُفكِّرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون».
ومَضَيتُ مرةً أخرى، أُقلِّب أوراقي التي مَلأَت أركان الخزائن حتى لم يعُد بها متسع لورقةٍ أخرى تُضاف، مضيتُ أُقلِّب أوراقي تلك، أقرأ سطرًا هنا وفقرةً هناك، وصفحةً كاملةً حينًا بعد حين، لكني هذه المرة أخذتُ طريقي مع الأيام متجهًا بها من ماضٍ إلى حاضر، فإذا ببوادر القلق تأخذ في الظهور، وإذا بالحيرة تزداد حدة، وبالتساؤل يعلو صوتًا ليقول: وماذا تكون قد صَنَعتَ يا أخانا، إذا أنت اكتفَيتَ بأن تسلك نفسك أوروبيًّا مع الأوروبيِّين؟ ماذا تكون إضافتك للدنيا إذا ما جَعلتَ من نفسك واحدًا يُضاف إلى كذا مليونًا من أهل أوروبا؟
نعم، رأيت في أوراقي شكوكًا تتقد جمراتها بين الأسطر كلما اقتَربتُ مع تلك الأوراق من يومي هذا. ووجدتُني في موضعٍ ما أتجه إلى نفسي بلائمةٍ كأني أعاتبها فأقول: أتكونين يا نفسي في أمسِك على رأي، ثُمَّ تصبحين في يومِك على رأيٍ آخر؟ ألَم تُريدي بالأمس ألَّا تختلط مصريتك بشيءٍ من عروبة؟ ولكني وجَدتُ تلك النفس المُتشكِّكة يُسارع إلى الجواب لنفسها فتقول: وماذا في أن أزداد تفكيرًا فأتغير؟ إن إيمان المرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شكٍّ فاحصٍ مُتعمِّق. لقد قيل للشاعر الأمريكي العظيم «وتمان»، وكان قد ناقض نفسه: لقد نقَضتَ نفسك في الرأي، وقُلتَ بالأمس ما نَسخْتَه اليوم. فأجاب: نعم، إنني أنقُض برأي اليوم رأيَ أمس، فماذا في ذلك؟
ومع ذلك فلا أظنني في وقفتي الجديدة قد نقَضتُ وقفتي الأولى؛ لأنني في الحقيقة لم أنسخها، بل أضفت إليها، فبعد أن كُنتُ مخمورًا بشيء اسمه ثقافة الغرب، جاءت صفحتي الجديدة لتقول: ثقافة الغرب مصقورة مع أصول الثقافة العربية. لقد تمنَّيتُ لأمتي فيما سبق أن تكون قطعةً من الغرب، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي.
وماذا هي أمتي استدلالًا من تاريخها؟ إنها أمة لَبِثَت طول تاريخها يَقظَى لما يدور حولها، لا لِتقِف منه موقف الرفض، بل موقف من يأخذ ليقتدي. ولم يكن عجبًا أن تأفُل شمس أثينا فتتولى الريادة من بعدها الإسكندرية، وأن يبدأ المد العربي قديمًا في المدينة والبصرة والكوفة ودمشق وبغداد، ثُمَّ تنهض القاهرة لِتستقطِب كل هذا، ويُمسَك بالزمام في دنيا الثقافة بين جنبات الأزهر الشريف.
إن تاريخنا الثقافي أشبه شيء في صورته بالعمارة الإسلامية، حين يُقام البناء على رقعة من الأرض معينة الحدود، حتى إذا ما صعد إلى الطابق الثاني برز بجوانبه، ليجيء هذا الطابق الأعلى أوسع رقعة من الطابق الأدنى، وكذلك يحدث في الطابق الثالث حين يرتكز على ما هو أدنى، ثُمَّ يبرز بجوانبه ليصبح أرحب … وهكذا فعلنا في مراحلنا الثقافية، فنحن إذا انخرطنا في الثقافة العربية، لم نَمحُ جذورنا الماضية، بل بنينا فوقها طابقًا يرتكز على ذلك الماضي ثُمَّ يتسع.
لقد بيَّنتُ في مقالٍ نَشرْتُه منذ قريب، وجعلت عنوانه «العروبة ثقافة لا سياسة»، كيف أن عروبة العربي لا يصدر بها قرار، بل هي «ثقافة» نحياها، وليس في وسعنا إلا أن نحياها. وعلى غرار ما قاله أرسطو حين قال: إنك لا تستطيع أن تنقض الفلسفة إلا بفلسفة، فإني أقول: إنك لا تستطيع — وأنت مصري — أن تتنكر للعروبة إلا بالعروبة. وكيف يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك، ما دُمتَ تُسوِّق تمردك عليها بلغتها؟ وليست اللغة وسيلةَ تعبيرٍ وكفى (كما قد يُظن) بل هي فوق ذلك عند أصحابها وسيلة «تفكير»؛ فقوالب التفكير عند من كانت لغته هي العربية غير قوالب التفكير عند من كانت لغته هي الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرهما. ومن هنا استحالت الترجمة الكاملة من لغة إلى أخرى إلا على وجه التقريب. فلماذا تشترط اللغات الأوروبية أن يكون في كل جملة «فعل» ولا تشترط العربية ذلك؟ لماذا تضع اللغات الأوروبية قواعد دقيقة لتحديد لحظات العمر، مُفرِّقةً بين اللحظة الحاضرة، والماضي، وماضي الماضي، وكذلك المستقبل، ومستقبل المستقبل، ولا تُعنَى العربية بذلك التحديد، تاركةً الأمر لكل مُتكلِّم وطَريقتِه في البيان؟ لماذا تجعل اللغات الأوروبية الفاعل قبل الفعل، حلى حين تُفضِّل العربية أن يكون الفعل قبل الفاعل؟ لماذا تضع بعض اللغات الأوروبية الصفة قبل الموصوف فتقول ما ترتيبه «بيضاء ورقة» وتضع العربية الموصوف قبل الصفة فتقول «ورقة بيضاء»؟ وهكذا وهكذا من الفروق التي قد يكون لها أَوَّل ولكن ليس لها آخر، وهي ليست بالفروق السطحية غير ذات الأثر في تشكيل طريقة التفكير، بل هي في صميم الصميم من عملية التفكير.
وما تقوله في اختلاف اللغات من حيث عمق التأثير في تكوين وجهة النظر وطريقة التناول، قل مثله في اختلاف الذوق وفي اختلاف القيم من حيث درجة أهميتها على الأقل، كما يَتبدَّى ذلك كله في الفنون وفي أسلوب العيش بصفةٍ عامة.
ربما تَوهَّمنا بأن العروبة (التي هي ثقافةٌ متميزةٌ بخصائصَ معينة) تُمحَى كلما دبَّت خصومة بين رجال السياسة في أقاليم الوطن العربي الكبير، لكننا لكي نرى الرؤية الصحيحة، فلننظر إلى الأمر من زاوية صُناع الثقافة لا من زاوية صُناع السياسة. فانظُر كيف إذا نبغ شاعر في أي بلدٍ عربي، استمع لشعره كل عربيٍّ ممن يتابعون هذا اللون من الأدب. وإذا شدا شادٍ بالغناء في مشرق أنصتَت إليه الأسماع في مغرب. كان شوقي شاعرًا للعرب جميعًا، وكان طه حسين كاتبًا للعرب جميعًا، وكانت أم كلثوم شادية للعرب جميعًا. وهكذا كلما نتجَت ثقافةٌ عربيةٌ رفيعة، سَقطَت أمامها الحواجز بين الأقاليم، وبرزت العروبة أمام الأسماع والأبصار كيانًا واحدًا مُوحَّدًا.
لا، ليس المطلوب للعربي إذا أراد الترقي، ألَّا يكون عربيًّا، بل المطلوب أن يكون عربيًّا جديدًا. المطلوب هو أن يظهر فينا «سندباد عصري» ليستأنف سيرة سندباد القديم بصورةٍ جديدة. وقل ذلك في الطب والهندسة والفلسفة وفي كل فرعٍ من فروع الأدب والفن والعلم والصناعة.
أَخَذتُ أُقلِّب أكداس الورق التي تراكَمَت عندي حتى ضِقتُ بها، لكنني خَرجتُ من النظرات السريعة التي أدَرتُها فيما كَتبتُه بعلمي — عن إيمانٍ صادق دائمًا — وعلى فتراتٍ من الزمن متباعدة، أقول إنني خَرجتُ من هذا كله بأن رأَيتُ القلم الذي شطح ذات يوم في تطرُّفه نحو الغرب، قد عاد آخر الأمر إلى توبةٍ يعتدل بها، فيكتب عن عروبةٍ جديدةٍ تكون هي الثقافة التي تصب جديدًا في وعاءٍ قديم، أو تصب قديمًا في وعاءٍ جديد.