درس نتعلمه من الأوائل
وقفةٌ ثقافيةٌ وقفها أسلافنا العرب الأولون، كان ينبغي أن تَستلفِت أنظارنا اليوم، بسدادها وروعتها، لنتخذ منها نموذجًا نحتذيه، في مسألةٍ أشكلَت علينا؛ إذ نقف من ثقافة الغرب حائرِين، أو ندَّعي الحَيرة باللسان والقلم، حتى إذا ما وجدنا أنفسنا في ميادين الحياة العملية، مضينا نأخذ عن القوم ثقافتهم لا نتراجع ولا نتردَّد؛ فكأنما نحس فجوة بين النظر والتطبيق، فمن الناحية النظرية نتوهم أن يفتك بعقولنا وقلوبنا، أمَّا من الناحية العملية، فترانا كلما أردنا لأنفسنا حياة قوية، لم نجد أمامنا طريقًا إلا أن نتسلح بسلاح الأقوياء، علمًا، وفكرًا، وفنًّا، ونظمًا اجتماعيًّا؛ بحيث لا نُبقي لأنفسنا من تراثنا إلا جانبًا مما يسمُّونه ﺑ «الأحوال الشخصية».
فما الذي أحدث فينا هذا الموقف المُتردِّد بين الرفض والقبول، إزاء الثقافة الغربية، التي هي ثقافة العصر بغير منازع؟ أحسب أن بعض السر يكمن في أن المصادفة التاريخية قد شاءت أن يكون صاحب الحضارة السائدة، هو نفسه الذي فرض علينا سلطانه، واستعمر بلادنا حينًا طال هنا وقصر هناك. فلما أن استطاعت شعوبنا أن تتخلص منه، لتظفر باستقلالها، لم تستطع في الوقت نفسه أن تفصل بين المعتدي وثقافته، فرفضته جسدًا وروحًا، وأَخذَتها خشية بعد ذلك، أن تفتح أبوابها للجانب الثقافي وحده، فيدخل مع الثقافة حاملُها، وتدور بنا العجلة مرةً أخرى إلى الوراء.
ولهذا الدمج نفسه بين الرجل وثقافته، كان من الطبيعي أن الوطن العربي في مختلف أقطاره، بدأ جهاده السياسي في سبيل استرداد حريته من مُستعمرِيه — وكانوا جميعًا من الغرب — بحركاتٍ تدعو إلى إحياء الدين قويًّا في القلوب، وإلى إحياء التراث كله بصفةٍ عامة، سواءٌ أكان ذا مضمون متصل بالدين، أم كان تراثًا في فروع العلم والأدب، اعتقادًا مِنَّا بأن أول خطوة نحو الحرية هي خطوةٌ نستعيد بها خصائصنا الثقافية، التي هي مُقوِّمات الشخصية المتميزة. أقول إن ذلك كان أمرًا طبيعيًّا، طالما كُنَّا في موقف الضعيف، غير الواثق بنفسه أمام الآخرِين.
لكن تعالوا نُلقِ نظرةً خاصةً فاحصة لموقف أسلافنا الأولين، خلال القرون الأربعة الأولى من التاريخ الإسلامي، على الأقل؛ فيلفت نظرنا موقفان يدعوان إلى التأمل والاحتذاء؛ أولهما موقفهم من عصر الجاهلية، وثانيهما موقفهم من الثقافات غير الإسلامية؛ اليونانية والفارسية والهندية؛ فهم في كلتا الحالتَين قدَروا بكل الثقة في أنفسهم، على ما لم نقدر نحن عليه، من حيث تحليلهم للمصدر الخارجي تحليلًا يُفرِّقون به بين ما يُؤخذ وما يُنبَذ، ولم يَتزمَّتوا عن خوف فينظرون إلى «الثقافة» المعينة ممزوجة بأصحابها ويَخشَون أن يمسوا فيها جانبًا فتتسلل إليها سائر الجوانب.
أمَّا عن موقفهم من العصر الجاهلي، فقد جاء الإسلام ليمحو كثيرًا من مُقوِّماته الأساسية، كالعصبيات القبلية والوثنية ومحاربة بعضهم بعضًا على نحوٍ يتعذر معه اتحادهم في أمةٍ واحدة، وهكذا، لكن كان للعصر الجاهلي إلى جانب ذلك كله، شِعرٌ، ولغةٌ، وكرمٌ، ونجدةٌ، وشجاعةٌ، وطائفةٌ أخرى من خصالٍ حميدة. فماذا صنع المسلمون الأولون حيال هذا المرُكَّب من خبيث وطيب؟ إنهم لم يخافوا؛ فلقد كانوا أصحاء أقوياء. فبينما رفضوا من الحياة الجاهلية جوانبها التي جاء الإسلام ليمحوها، لم يَتردَّدوا في أن يجعلوا من الشعر الجاهلي مرجعهم في اللغة، وفي كثيرٍ من معايير النقد الأدبي، ومرجعهم كذلك فيما ينبغي أن يُمدح أو يُذم. ومن هنا رأينا علماء اللغة ونُقاد الأدب خلال القرون الأولى من تاريخ المسلمين قد شغَلوا أنفسهم بجمع الشعر الجاهلي، واستخلاص الشواهد منه. فإذا قيل إن الشاعر الفلاني قد استخدم هذه اللفظة أو تلك، وهذا التركيب اللغوي أو ذاك كان في ذلك حسمٌ قاطعٌ عند اختلاف الرأي.
نعم كانت هناك مَدرسةٌ لغويةٌ أخرى أرادت أن تُقيم للغة أساسًا من منطق العقل؛ بحيث يجوز في هذه الحالة للناقد أن يقول عن شاعرٍ جاهلي إنه «أخطأ» لأنه انحرف عن قواعد العقل؛ أي إن معيار الصواب — عند هذه المدرسة — ليس هو أن يكون جاهلي قد قال لفظًا مُعيَّنًا، بل إن معيار الصواب اللغوي مستقلٌّ عن الأشخاص وما استعملوه، قُدماء كانوا أو مُحدَثِين، ولكن قيام مدرسة تُحاكِم أبناء اللغة العربية — من حيث الصواب والخطأ — على أُسسٍ من منطق اللغة ذاتها، لا فرق في هذه المحاكمة بين قُدماء ومُحدَثين، لا يتضمن رفضًا للشاعر الجاهلي من حيث هو جاهلي، بل الرفض مُنصَبٌّ على جريان لغته مع قواعد العقل وعدم جريانها.
هكذا استطاع الأوائل أن يقفوا من التراث الجاهلي وقفةً تحليلية، لا تقبل «بجملة» ولا ترفض «بالجملة»، بل تقبل جانبًا وترفض جانبًا. مثل هذه الوقفة التحليلية الواعية، وقفوها كذلك بالنسبة إلى الثقافة اليونانية عندما أرادوا نقلها إلى العربية؛ فها هنا أيضًا لم يقبلوا بالجملة، ولم يرفضوا بالجملة، بل ميَّزوا بين ما يَحسُن نقله وما لا يَحسُن؛ فبينما نقلوا الفلسفة والعلوم نقلًا أوشك أن يكون كاملًا شاملًا، برغم ما قد يُظن وجوده من تناقُضٍ بين فلسفة اليونان وعلومهم، من جهة، وما تُقرِّره الشريعة الإسلامية من جهةٍ أخرى. أقول إنهم حين أقبلوا على هذا الجانب ينقلونه بلا حرج، امتنعوا عن نقل شيء من الأدب اليوناني، فلا هم ترجموا الشعر، ولا هم نقلوا الأدب المسرحي. وما زلنا نحن حتى اليوم نُحاوِل تعليل امتناعهم ذاك، أهو امتناع بسبب ما امتلأ به الأدب اليوناني من أساطيرَ عن آلهتهم، مما لا يُصادِف قبولًا في نفوس المسلمين؟ أم هو امتناعٌ صادرٌ عن ثقة العربي بأدبه ثقةً أَقنعَته بأنه لا كمال يُرجى فوق كماله؟
تلك هي وقفة أسلافنا من ثقافات الآخرين، فلا هم كانوا عبيدًا لها، ولا هم استكبروا عليها، بل وقفوا منها موقف العاقل البصير، يعرف ماذا يأخذ منها وماذا يدع، أفليس في هذا درسٌ نتعلمه من الأسلاف؟