الفكر العربي من لغته
من أوهام الإنسان التي تُوشك أن تكون جزءًا من فطرته ظنه بأن فكره شيء ولغته شيءٌ آخر؛ حتى لتراه كثيرًا ما يلجأ في تصوير العلاقة بين الفكر واللغة إلى التشبيه بالشراب والكأس، أو بالثوب والبدن، كأنما الفكر ينسكب في العبارة اللفظية كما ينسكب الماء في القدح، أو كأنما اللغة يمكن أن تَتعرَّى عن الفكر فتكون كالجسد العاري، لا يكتسي إلا إذا لبس ثوبًا من أفكار. ولهذا الظن الواهم عند الإنسان، تسمعه يقول عندما تَصعُب عليه العبارة: إن الفكرة في رأسي واضحة، لكنني عاجزٌ عن التعبير.
وحقيقة الأمر هي ألَّا فكر عندي وعندك إلا ما قد ورد في لفظي ولفظك، لا زيادة هناك ولا نقصان هنا، بل وليس الأمر شيئَين قد يتصلان وقد ينفصلان كما نشاء نحن لهما، بل الذي هناك هو شيءٌ واحد، ألا وهو اللفظ ودلالته؛ فهو كالمصباح وضوئه، وكالزهرة وعطرها. فإذا وَجَدتَ غموضًا في قولٍ قاله لك قائل، فاعلم أن الغموض هو كذلك في فكره، والعكس صحيح كذلك؛ أي إنه إذا كانت الفكرة مضطربة في رأس صاحبها، فلا بُدَّ أن تجيء عبارته عنها بالدرجة نفسها من الاضطراب.
وذلك الذي نقوله عن «الأفكار» العقلية، لا ينفي قيام «حالات» في النفس، تظل حبيسة في الصدر لا تجد لفظًا يخرجها، أو قد تجد لفظًا ولكنه لا يفي بكل مضمونها، كحالات الحب والكراهية والغضب والرضا وما إليها. ومن هذا القبيل حالات عند المتصوفة أو عند العاشقِين، يحسونها ولا يملكون التعبير عنها تعبيرًا كاملًا. وواضحٌ أن أمثال هذه «الحالات» شيء، و«الأفكار» شيءٌ آخر. ونحن هنا إنما نقصر حديثنا على «الفكر» العقلي دون سواه.
وفي ذلك أزعم أن فكر العربي كما يَتبدَّى في لغته، مختلف في عمقه العميق عن فكر الغربي كما يَتبدَّى في لغاته أيضًا. وأسارع هنا إلى التنبيه بأن الفكرَين إذا اختلفا في موضع فلا ينفي ذلك أن يكونا مُتفقَين في عدة مواضعَ أخرى؛ لأنهما — بالفعل — متفقان في كثيرٍ من الوجوه، ولولا هذا الاتفاق لما استطاع العرب أن ينقلوا إلى لغتهم معظم الفكر اليوناني، وهو بمثابة الينبوع الذي انبثق منه الفكر الأوروبي في عصوره الوسطى والحديثة.
وسأقصر حديثي في هذه الكلمة على نقطةٍ واحدة من نقط الاختلاف بين الفكرَين، وهي نقطةٌ أراها بالغة الأهمية في تصوير الوقفة العربية كلها، مستندًا في ذلك إلى اللغة وما تدل عليه. وتلك النقطة التي أردت عرضها هي المقابلة بين «النظر» و«التطبيق»، أو قل بين النموذج العقلي من جهة، وأمثلته المادية من جهةٍ أخرى، أو بعبارةٍ ثالثة بين الفكر والواقع، وهما الطرفان اللذان يتمثل فيهما مذهبان من مذاهب الفلسفة الغربية، لو ترجمنا اسميهما إلى العربية ترجمةً حرفية — كما يقولون — لجعلناهما «الفكرية» و«الشيئية»؛ فمذهب «الفكرية» يرى أن الحقائق كلها أفكار وليست أشياء في عالم المادة. على حين يرى مذهب «الشيئية» أن تلك الحقائق هي «أشياء» أوَّلًا قبل أن نُصوِّرها لأنفسنا بأفكار، لكن الناقل العربي حين ترجم هذَين الاسمَين إلى لغته، اختار لهما لفظتَي «المثالية» و«الواقعية» وها هنا أجعل محور حديثي.
فأُلاحظ أول ما أُلاحظ، أن الفرق البعيد بين الاسمَين اللذَين اختارهما الغربي لوجهتَي النظر، والاسمَين اللذَين اختارهما الناقل العربي، إنما يُصوِّر فرقًا جوهريًّا بين طريقة التفكير عند الغربي وعند العربي، ويهمنا الإشارة إلى ذلك الفرق وتوضيحه، ليرى العربي صورة عقله مُنعكسةً على مرآة لغته.
فحين قابل الغربي بين «الفكرة» و«الشيء»، فقد كان في الوقت نفسه يُقابِل بين نموذجٍ رياضي بالغ الكمال، وشيء في الطبيعة قد يقترب عن ذلك النموذج العقلي أو قد يبتعد عنه؛ ففكرة «المثلث» — مثلًا — بأنه سطحٌ مستوٍ محوطٌ بثلاثة خطوطٍ مستقيمة، يستحيل أن تجد ما يُطابقها تمام المطابقة في المثلَّثات المجسَّدة في أشياء الطبيعة؛ إذ مهما استوى السطح في تلك الأشياء، ومهما استقامت الخطوط، فلا بُدَّ أن يجيء دون الدقة التي للفكرة الرياضية عن المثلث. وما معنى ذلك؟ معناه أن العقل الغربي يضع نماذجَ نظريةً كاملة، ليسعى الإنسان في دنيا الأشياء أن يقترب من تلك النماذج ما استطاع.
وأمَّا حين يجعل العربي المقابلة بين «المثال» و«الواقع»، فذلك يعني أمرَين؛ أولهما أنه في الحقيقة يُقابل شيئًا بشيء، لا فكرةً بشيء؛ وذلك لأن لفظة «مثال» وجميع المشتقات العربية من كلمة «مثل» إنما تشير إلى أشياء في هذه الدنيا الطبيعية، ومن ذلك قولنا «تمثال» و«يتمثل» و«مثل بين يديه» و«ماثل أمامه» و«يضرب لكم الأمثال» أن يصور المعنى في تشبيه محسوس، وهكذا. فالمثال في معناه العربي هو الفرد الذي بلغ الكمال بالنسبة إلى بقية أفراد جنسه؛ فمثال الحصان هو حصان من لحم وعظم كغيره، لولا أنه بلغ الدرجة القُصوى المُمكِنة. ومثال «الإنسان» فرد من الناس يجلس ويأكل وينام، ولكنه بلغ الدرجة القصوى الممكنة بين الأُناس. وفَرقٌ بعيدٌ بين أن تجعل النموذج الأعلى فكرةً رياضيةً كاملة، وبين أن تجعل ذلك النموذج الأعلى فردًا كائنًا بالفعل كبقية الأفراد، ارتقى عنهم، ولكنه قد لا يخلو من نقص.
ذلك أحد الأمرَين. وأمَّا الأمر الثاني، فهو أن كلمة «واقع» — من الوقوع، أو الهبوط، أو السقوط — تحمل في طيِّها «قيمة»؛ إذ تحمل معنى الانحطاط والازدراء لما هو طبيعي. وإذن فالمقابلة بين «مثال» و«واقع» هي — أوَّلًا — مقابلة بين شيء وشيء، وهي — ثانيًا — تنطوي على ازدراء للشيئين معًا. ومعنى ذلك هو أن الفكر العربي كما وضع نفسه في هاتَين اللفظتَين، قد فصل فصلًا تامًّا بين الطبيعة بكل ما فيها من كائناتٍ أرقى وكائنات أحط، وبين العالم العقلي، فبات العقل عنده كيانًا قائمًا وحده مستقلًّا، ليس من شأنه أن يهدي الكائنات الأرضية إلى التسامي. وحقًّا إن النهضة الفكرية إنما تبدأ من النهوض باللغة وطرائق استخدامها.