رجع الصدى
في حياتنا الثقافية اليوم سؤالٌ مطروح، تأتي عنه إجاباتٌ مختلفة من هنا، وهنا، وهناك، وهو: لماذا لا تَنفُذ الأمة العربية في حاضرها الراهن، إلى العالم الخارجي بفكرها وأدبها؟ إننا إذا استثنينا أمثلةً قليلة، فلا نكاد نقع في بلاد الدنيا، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، عن كاتبٍ عربي، أو شاعر، أو فنان، قد شغل الناس بقضيةٍ فكريةٍ تتحدَّى العقل، أو بضربةٍ جديدةٍ في دنيا الإبداع الأدبي والفني؛ بحيث وقف عندها النقاد تحليلًا وتعليلًا، ومن بعدهم أرباب الثقافة يتبادلون الإعجاب، أو يُبدون الريبة أو السخط.
فلما طَرحتُ السؤال نفسه الآن أمامي لأجيب — وقد حدث أن طَرحتُه على نفسي مرارًا قبل ذلك وحاوَلتُ الجواب — وَثبَتْ إلى ذهني صورة دون أن أستدعيها، وهي صورةٌ مستمدةٌ من أسطورةٍ يونانيةٍ قديمة، الله أعلم متى قرأتها. وأعني أسطورة «اكو» (وقد أصبح اسم «اكو» كلمة في بعض اللغات الأوروبية ومعناها «الصدى»). ولقد كانت «اكو» في الأسطورة اليونانية القديمة، هي ربَّة الجبال، لكنها عُرفت بين الأرباب بطول لسانها ولجاجتها، وكثرة معارضتها لأي شيء تسمعه من متحدثٍ كائنًا ما كان المتحدث. وأيًّا ما كان موضوع الحديث، فضاق الأرباب ذرعًا بها، وحكموا عليها بعقوبةٍ من جنس إثمها، ألا وهي أن تعجز «اكو» عن النطق بما هو جديد، وأن ينحصر نطقها في شيءٍ واحدٍ فقط، وهو أن تُردِّد المقطع الأخير مما تسمعه. فلا هي باتت قادرةً على المبادلة بقولٍ جديدٍ تعرضه على الآخرِين، ولا قادرة على معارضة ما يجيء إليها من الآخرِين معارضةً متكاملةَ المعنى.
أقول إنني حين طَرحتُ على نفسي السؤال الشائع في حياتنا الثقافية اليوم، وهو: لماذا لا نلحظ للأمة العربية في عصرنا وجودًا ذا وزن في عالم الأدب والفكر؟ ثُمَّ هَمَمتُ بمحاولةٍ جديدةٍ نحو جوابٍ أُقدِّمه، فاجأتني أسطورة «اكو» التي أوجزتها لك، فكأنما عَرضَت تلك الأسطورة نفسها عليَّ، لعلي أجد فيها شيئًا من الجواب المطلوب، وذلك هو بالفعل ما قد حدث! فلئن كانت الأمة العربية قد مَلأَت أسماع الدنيا في يومنا هذا كلما كان الحديث عن الاقتصاد، والتضخُّم، وكلما كان خوفٌ من حربٍ عالميةٍ يندلع لهبها من شرارةٍ أُولى تنقدح من الشرق الأوسط، فإن تلك الأمة العربية لا يكاد يكون لها أثرٌ في عالم الفكر والفن والأدب، اللهم إلا ترديدات بتراء لمقاطع تَخطَفُها من أقوال الآخرِين اختطافًا. فهي آنًا تأخذها عن الغرب الحديث، وهي آنًا آخر تأخذها عن آبائها العرب الأقدمِين.
فما الذي قضى علينا بأن نقنع من دنيا الثقافة برجع الصدى؟ قد يكون ذلك لطبيعة المرحلة الحضارية التي نجتازها، والتي وجدنا أنفسنا فيها مُحاصَرِين بحضارتَين لم نكن نحن العرب المُعاصرِين صُنَاع أيٍّ منها؛ إحداهما ورثنا بعض آثارها من أسلافنا، والأخرى تهجم علينا من الغرب هجومًا لا قِبَلَ لنا برده، ولا مَصلحةَ لنا في رده، فأخذنا ننقل عن هذَين المصدرَين، نقلًا لا نتريث فيه ولا نتدبر، كأنما نخشى أن يفوتنا قطار الزمن، فجعلنا نلهث وراءه بتلك الأجزاء المبتورة التي نزعناها نزعًا من هذه الحضارة ومن تلك، وأوشكنا ألا نتقدم إلى الناس بشيءٍ واحدٍ جديد. إننا ننقل عن ذَينِك المصدرَين كل ما نُعلِّمه في مدارسنا وجامعاتنا من علم وفكر وفن. وننقل عنها ما نتمذهب به في السياسة والاقتصاد وسائر النظم؛ ولذلك ترانا، إذا اعتَرضَت حياتنا مشكلةٌ من أي نوعٍ كانت، انقسمنا إزاء حلها قسمَين؛ قسم يفتح دفاتر الأقدمِين بحثًا عن الحل، وقسمٍ آخر يتصفح كتب الغرباء الغربيِّين بحثًا عن الحل، وحتى ما قد يُخيَّل إلينا أننا مبدعون فيه جديدًا كفنون الأدب، وألوان الفن وبعض ما نعرفه من أفكارٍ نقدية، فهو في صميمه محاكاة لنماذجَ اختارها المبدع من هنا أو هناك بحسب نزعته الثقافية، أهي تنزع به نحو تراث أسلافه، أم تميل به نحو العالم الخارجي؟
وقد يكون من الأسباب التي حالت بيننا وبين أن يعرف العالم شيئًا عن القليل الذي نبدعه جديدًا أننا نكتب باللغة العربية، التي تتعذر الترجمة عنها إلى لغات أخرى، فبَدَوْنا وكأننا فقراء فكر وأدب وفن، وما حقيقة الأمر إلا أن وسيلة نقلنا إلى الآخرين قد استعصى أمرها. وهي حجة كثيرًا ما تُقال التماسًا لعذر يستر ماء وجوهنا، إنه لو كان لدينا الجديد القوي لانتشر عطره فوَّاحًا، وأقبل عليه الناقلون، وانظر إلى ما حدث في تاريخنا العربي القديم حين كان لنا الجديد نقدمه، فيسعى الساعون إليه من أنحاء أوروبا يتعلمون اللغة العربية من أجله، كما نتعلم نحن اليوم لغاتهم من أجل الحصول على ما يقدمونه من جديد كل يوم …
إننا نكتب ونكتب، لكننا كمن يهمس بعضهم إلى بعض، لا لأن لغتنا عصية على الغرباء أو قل إن ذلك ليس هو السبب الأوَّل والأهم، بل يجيء قبل ذلك ما أسلفت ذكره وهو أن ليس عندنا جديد، لماذا؟ أليس لنا — على الأقل — مشاعر الفرح والأسى؟ أليس لنا قلوب تنبض بالحب والكراهية كقلوب البشر؟ ألسنا نسخط ونرضى؟ ألسنا أصحاب عقيدة دينية تعمر صدورنا؟ فلماذا لا نخرج هذا كله أدبًا جديدًا يود الغرباء لو طالعوه فطالعوا شيئًا لم يألفوه؟ جواب ذلك عندي هو: نعم عندنا هذا كله، لكننا مصابون بازدواجية، الله وحده أعلم كم تنفرج زاويتها بين ما تظهره من أنفسنا وما تخفيه، فتقرأ لمن تقرأ له في كتابنا، فلا تدري أحقًّا هذا هو إيمانه أم إنه شيء يكتبه ليرضى عنه جمهور القارئِين؟ كم من كُتَّابنا وضع شكوكه على الورق؟ كم منها أفصح عن حقيقة حبه إذا كان من المحبِّين؟ إنني لأزعم — ورزقي على الله — بأن جزءًا كبيرًا مما تجري به أقلامنا كذب، ومِنْ ثَمَّ فَقدَت كتاباتنا قوة جذبها.
لقد لَبِثَت أمريكا منذ نشأتها وحتى منتصف القرن الماضي، قليلة الثقة بنفسها من الناحية الثقافية، وتنقل عن أوروبا فكرها وفنها، ثُمَّ صاح فيها عندئذٍ «أمرسون» صيحةً كان لها دوي، أن آن الأوانُ لظهور ثقافةٍ أمريكيةٍ خالصة، وقد كان. فهل لنا من يُطلِق في الأمة العربية اليوم مثل هذه الصيحة؟