حضارة الأخلاق
شَهِدَت الإنسانية حضاراتٍ يزيد عددها على العشرين (إذا اخترنا بمقياس «توينبي» في دراسته للتاريخ)، وكان لكل حضارة فيها مذاقٌ خاص، وإلَّا لما تميزت عن سواها. ولا بُدَّ أن تكون تلك الخاصة المميِّزة للحضارة المعيَّنة هي التي عَمِلَت على نشأة تلك الحضارة وظهورها، وذلك عندما كانت تلك الخاصة الممِّيزة في عنفوان قوتها، ثُمَّ لابد كذلك أن تكون تلك الخاصة نفسها عندما أصابها ضعف وفساد، هي علة اندثار الحضارة التي تميَّزَت بها. وهذه كلها مقدماتٌ أراها واضحةً بذاتها، أو تكاد تكون كذلك.
ومن تلك المقدمات الواضحة، أنتقل بخطوةٍ واضحةٍ إلى ما أَردتُ أن أقوله في هذه السطور، وهو أن الخاصة التي ميَّزَت الحضارة الإسلامية من سائر الحضارات؛ هي أنها أدارت رحاها على محور «الأخلاق». فإذا كانت حضاراتٌ أخرى قد أَرسَت قواعدها — في المقام الأوَّل — على «الفن» أو على «العلم»، أو غير ذلك من أسس كالزراعة والتجارة أو الصناعة، فإن الحضارة الإسلامية قد اختارت «الأخلاق» أساسًا لها.
على أننا في هذه التفرقة، لا يفوتنا أن الجوانب كلها قد تجتمع في كل حضارة على الإطلاق وذلك بمقاديرَ تتفاوت هنا وهناك، لكننا هنا إذ نُميِّز الحضارة المُعيَّنة بخاصةٍ ما، فإنما نريد أن تكون تلك الخاصة — أكثر من سواها — ركيزةً أُولى يُقام عليها البناء، وبناء الحضارة الإسلامية ركيزته «الأخلاق».
قف معي لحظةً تتأمَّل فيها هذه الآيات الكريمة من سورة الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ …؛ فأول ما يلفت النظر للوهلة الأولى، بل ويلفته للوهلة الثانية، والثالثة، والعاشرة، هو أن هذا العدد القليل من الآيات الكريمة قد أوجز لنا القول إيجازًا بليغًا، في ثلاث حضارات سبقت ظهور الإسلام — ضمن ما سبقه — وهي حضاراتٌ ثلاث تشابَهَت كلها في أنها جعلت «الفن» أساسًا لصروحها، وإن اختلفت بعد ذلك في نوع الفن الذي اختارته كل واحدة منها؛ فقوم «عاد» الذين عاشوا حضارتهم فيما هو الآن الجزء الشمالي من الجزيرة العربية كانت براعتهم في بناء المدن، وأقاموا مدينة «إرم»، على نحوٍ يذهل خيالك ذهولًا إذا قرأت شيئًا من تفصيلاته كما ذكرها المؤرخون؛ فهي مدينة قوامها قصور شوامخ، من ذوات الطوابق. وكانت طريقتهم في بناء الطوابق العليا أن يُقيموها على «عُمُد»، والعُمد بدورها تُقام على أسطح الطوابق السفلى لا على الأرض، فكانت تلك العُمد تبدو للقادم من بعيد وكأنها غابةٌ كثيفةٌ من الجذوع الصخرية العاتية. وصدق الله العظيم في وصفها بأنها إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ.
وأمَّا قبيلة ثمود فقد عاشت هي الأخرى في منطقةٍ قريبة من موطن عاد، وكان مقرها واديًا صخريًّا أوشَكَت حياة النبات وحياة الحيوان ألا تجد لها فيه موردًا للنماء، فدارت براعتهم — أعني قبيلة ثمود — على فن النحت بصفةٍ أساسية، وحتى بيوتهم نحتوها في صخور الجبال كالكهوف. وأخيرًا يأتي ذكر فرعون وما اختارته حضارةُ مصر يومئذٍ من فن المسلات والمعابد (الأوتاد)؛ فليس هو فن المدن كما رأينا عند «عاد»، وليس هو فن النحت كما رأينا عند «ثمود»، لكنه فن المعابد وملحقاتها، وفيها ما فيها من قوائمَ ذاتِ جبروت وشموخ.
هي إذن حضارات قامت على «فنون»، ولم يكن في ذلك ما يُعاب لولا أنها قَرنَت فنونها تلك بطغيان، أعني أنها أقامت فنًّا عظيمًا في ذاته، لكنها لم تدعمه بأخلاق التعاطُف بين الإنسان والإنسان.
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ.
ونمضي في قراءة سورة الفجر، فنقرأ أمثلةً من أخلاق السلوك التي أوزت حضارات الفنون السابق ذكرها، فهم لم يكونوا يكرمون اليتيم، ولم يكونوا يطعمون المسكين، وكانوا يأكلون التراب أكلًّا لمًّا، ويحبُّون المال حُبًّا جمًّا.
وجاءت حضارة الإسلام لتكون أوَّلًا وقبل أي شيءٍ آخر حضارة أخلاق، تعتمد على بناء الضمائر في الصدور، قبل أن تُعنَى ببناء مدينة في فخامة مدينة «إرم»، أو براعة يبدونها في تشكيل الصخر العصبي بيوتًا وتماثيل، أو الارتفاع بأوتاد الهياكل والمعابد؛ فبالضمائر الحية التي ترسم لأصحابها كيف يكون التعامُل الودود بين الناس، تطمئن النفوس. وإن سورة الفجر تختم آياتها بخطابٍ إلى النفس التي اطمأنت: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي.
للحضارات الإسلامية أن تضيف إلى نفسها فنًّا، وعلمًا، وما شاءت أن تُضيف، لكنها إذا لم تُميِّز نفسها بركيزة الأخلاق، فربما بَقِيَت «حضارة» لكنها لن تكون حضارةً «إسلامية».