حقيقة المبادئ
لكلمة «مبادئ» في أحاديث الناس سِحرٌ خلَّاب. فإذا قيل عن فرد إنه ذو مبادئ، كان ذلك وحده كفيلًا بمنزلةٍ ساميةٍ عند السامع، دون أن يسأل هذا السامع عن تلك المبادئ ما هي؟ فالكلمة وحدها مكتفية بذاتها، كأنها وردة تفوح بعطرها. وأغلب ظني هو أن لهذه اللفظة العجيبة بسلطانها على عقول المُتحدثِين وقلوبهم، دورانًا على ألسنة العرب، أكثر جِدًّا مما أجدها جارية على ألسنة المُتحدثِين في أممٍ أخرى مما رأيت. وربما كان ذلك نتيجةً لحقيقةٍ حضاريةٍ تُميِّز العرب عمن سواهم بعض التمييز، وهي أن الأولوية عند العربي لمبادئ الأخلاق. وقد تكون الأولوية عند غيره «للأشياء»، فإذا تعارض مبدأٌ أخلاقيٌّ معترفٌ به، مع تحصيل مال أو عقار أو ما شئت، كان الرأي الحاسم عند العربي هو أن يُحافظ على المبدأ وأن يُضحِّي بما يتعارض معه. وقد تجد من أبناء الثقافات الأخرى ما يعكس هذا الترتيب؛ فاكتساب الأشياء يجيء أوَّلًا، ثُمَّ يبني المبادئ على هذا الأساس؛ بحيث يصبح معيار العمل الأخلاقي مقدارَ ما يترتب عليه من نفع.
أقول إنه ربما جاء سحر كلمة «مبادئ» في مسمع العربي، ناشئًا عن كون تلك المبادئ مرتبطةً أساسًا بالحياة الخُلقية، وناشئًا بعد ذلك عن كون الحياة الخلقية في نظر العربي ذات أولوية على سواها. ولعلك تلحظ في لفظ «مبدأ» نفسها ما يدل على النقطة التي «نبدأ» منها السير، أو التي نبدأ منها التفكير. إنك حين تأخذ في مناشط حياتك اليومية، لا بُدَّ لك أن «تبدأ» من دارك ساعيًا إلى حيث تسعى. وإذا ما هَمَمتَ برحلةٍ ترتحلها، كان محتومًا أن «تبدأ» رحلتك من محطة القيام. وهكذا الأمر في رحلة الحياة بأسرها؛ فهي تريد منك مجموعة مبادئ، أي إنها تريد أُسسًا راسيةً راسخةً بادئ ذي بدء، حتى يُتاح لك أن تُقيم عليها ما شئتَ من بناء.
لهذه المكانة المحورية التي تكون للمبادئ في تنظيم مسالك حياتنا جعلنا لها في أنفسنا هذا السلطان. وليس في هذه الوقفة الحضارية شيءٌ يُعاب، بل إنها لوقفةٌ تدعونا إلى الزهو والفخار، لولا ما قد يترتب عليها — إذا ما ضاقت تلك المبادئ على مناشط الحياة الجديدة — من جمودٍ يَقعُد بأصحابها عن ملاحقة التطوُّر بالسرعة المطلوبة. ولشرح ذلك أقول:
لِنترك الحياة العملية الآن جانبًا. ولْننظر إلى العلوم كيف تُبنى على «مبادئ» لكي نرى الطريقة التي تجمع بها النظرة العلمية، بين ضرورة أن تُقيم بنيانها على «مبادئ» دون أن تستعبد نفسها، فتلك المبادئ، وبعدئذٍ نستطيع أن نحاكي تلك النظرة العلمية، في مجال حياتنا العملية، فنجمع في ساحتها بين ضرورة المبادئ وإمكان تغييرها في آنٍ معًا.
ففي العلوم الرياضية، لا بُدَّ للعالم الرياضي أن يقدم بفكره حقائقَ يجعلها مُسلَّماتٍ لا تخضع للمناقشة؛ فهي بحكم افتراضها واجبة القبول، ومنها «نبدأ» تفكيرنا الرياضي لنستخرج به ما أمكن استخراجه من نتائج تترتب على تلك المسلمات. لكن ماذا لو وجدنا تلك النتائج غير ذات نفعٍ لنا في دنيا التطبيق؟ هنا يعود الرياضي فيقدم لفكره مجموعة من مسلماتٍ أخرى، ويستولدها نتائجها. وهكذا ترى أنه بينما وضْع «المبادئ» الأولية شرطٌ ضروريٌّ لحركة السير، فإن لنا حرية تغيير تلك المبادئ بسواها ابتغاء الوصول إلى ما هو أجدى.
وكذلك الأمر في العلوم الطبيعية؛ فها هنا أيضًا يبدأ الباحث بما يسمُّونه «فرضًا» أو «فرضية» يستخلصها الباحث من المعلومات الجزئية التي جمعها عن موضوع بحثه، ثُمَّ يستدل من تلك الفرضية ما استطاع استدلاله من نتائجَ صالحةٍ للتطبيق على الواقع العملي. لكننا نسأل مرة أخرى: ماذا لو وجدنا تلك النتائج غير صالحة للتطبيق العملي؟ جواب ذلك هو: يعود الباحث إلى وضع فرضية أخرى عساها أن تجيء مواتية. فها هنا أيضًا نرى جمعًا بين ضرورة أن يبدأ السير من «مبدأ» هو الفرضية المقترحة من جهة، وإمكان استبدال غيرها بها إذا وجدناها غير ذات نفعٍ لنا، من جهةٍ أخرى.
ونعود الآن إلى حياتنا العملية وما تقوم عليه من «مبادئ»، لنقول إن الأمر في هذه الحالة لا يختلف — أو قل إنه لا يجوز أن يختلف — عن الأمر في ميدان العلوم بشطريها؛ الرياضي والطبيعي على حدٍّ سواء. بين أيدينا في الحياة العملية «مبادئ» ليس منها بُد إذا أردنا لتلك الحياة أن تكون على هدى؛ فقد يكون المبدأ — مثلًا — أنه إذا اصطَدمَت رغبةٌ ما عند فردٍ مُعينٍ برأيٍ عامٍّ يخالفها، وجب الأخذ بالرأي العام على حسب الرغبة الفردية؛ فمبدأٌ كهذا من شأنه أن يُنظِّم علاقات التعامل بين الناس في مجتمعٍ واحد، تمامًا كما تُوضع القواعد لمرور السيارات في الطريق العام، كأن يُقال — مثلًا — للقادم من اليمين أولوية المرور، منعًا لتصادُم السيارات القادمة من جهاتٍ متعارضة.
لكننا نُلقي السؤال نفسه الذي ألقيناه في مجال التفكير العلمي، ونقول ماذا لو وجد الناس بين أيديهم مبدأً سلوكيًّا لم يعد يصلح لظروف الحياة في عصرنا؟ الجواب هنا هو نفسه الجواب هناك، وهو: إننا عندئذٍ نستبدل به مبدأً آخر يكون أكثر صلاحية. فافرِض أن من مبادئنا في إكرام الضيف أنه إذا لم يكن الطعام المتاح كافيًا لأهل الدار وللضيف معًا وجب تقديمه للضيف، وعلى أهل الدار أن يبيتوا على الطوى، فهذا مبدأٌ كانت له ضرورة حياةٍ مضت، ولم تعد ظروف حياتنا الراهنة تستلزمه، بل وربما لو ظل قائمًا أنتج الضرر، فلا ضَيرَ علينا إذا نحن أحلَلْنا محله مبدأً آخر.
نعم، لا بُدَّ لتنظيم الحياة من «مبادئ»، لكن لا بُدَّ لتطوير الحياة من تغيير المبدأ المُعوِّق للسير لنقيم مكانه مبدأً أصلح؛ فلا فرق من حيث المهمة التي تؤديها المبادئ في حياتنا، بين موقفنا منها في مجال العلوم وموقفنا منها في مجال الحياة العملية؛ ففي كلتا الحالتَين هي ضرورة للبدء ولتنظيم السير، وفي كلتا الحالتين أيضًا يجب تغييرها كلما رأيناها أضيق من أن تساير حركة الحياة. واليوم الذي يجعل الناس فيه لتلك المبادئ قداسةً يحرُم تغييرها هو نفسه اليوم الذي يقضون فيه على أنفسهم بالجمود والفناء.