إحياء التراث وكيف أفهمه
عندما أخرج أبو حامد الغزالي كتابه «إحياء علوم الدين»، لم يُرِد لكلمة «الإحياء» أن تجيء على الغلاف زخرفًا تُبهِر العين، أو أن تكون صوتًا له في السمع إيقاعٌ ثُمَّ يمضي فلا يترك وراءه أصداء تَتردَّد في كل صفحات الكتاب، بل أراد أن يكون لاسم الإحياء معناه، وهو أن تَرِد إلى شريعة الإسلام «حياة» تَتبدَّى في سلوك المُسلمِين، بعد أن كان نبضها قد خفق في القلوب، إلى الحد الذي أغرى طائفةً من المُتصوِّفة أن يجعلوا الشريعة في ناحية، والحقيقة في ناحيةٍ أخرى.
وعلى هذا الغِرار نفسه، إذا ما أردنا اليوم «إحياءً» للتراث، وجب أن يكون لهذه الكلمة «معنى»، بأن نُخرِج موروثنا الثقافي من غيبوبةٍ ألمَّت به، ولا يكون ذلك بإعادة طبع كتابٍ اصفرَّت أوراقه، في كتابٍ ابيضَّت فيه تلك الأوراق، ثُمَّ نكتفي بذلك فنقول: «إحياء»!
وهل تحيا الدمية إذا ألبسناها ثوبًا غير ثوب؟ ولن يُغيِّر من الأمر شيئًا أن يضيف المحققون إلى الطبعة الجديد هوامشَ مُثقلةً برموزها، فيقولون إن هذه اللفظة المُعيَّنة قد وَردَت في النسخة الفلانية كذا، وفي النسخة العلانية كَيْت، فهذا كله عملٌ أكاديميٌّ له قيمته، لكنه لا يُحيِي كائنًا بعد موت.
وإحياء التراث لا يتحقق إلا إذا انتقل من كونه جملةً مفردةً تُكتب أو تُقال ليصبح غذاءً لكائنٍ حيٍّ مُتعيِّن، فيجري في شرايينه دماءٌ مع الدماء؛ بمعنى أن يتحول في نفسه إلى ضرب من الحساسية، يتذوق ما يتذوقه، وأن يُفرز له مجموعة من القيم، يهتدي بها في قبول ما يقبله من أنماط السلوك. فالعالم المستشرق إذا ما حقق كتابًا في التصوُّف الإسلامي — مثلًا — وشرح غوامضه في هوامشَ تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه، ليس — بالضرورة — «يحيي» هذا النص الذي حققه ونشره؛ بمعنى أنه قد لا ينتهي من عمله هذا بأن يحيا حياة المتصوف صاحب النص؛ فالإحياء لا يكون إلا بالتحرُّر من قيود الزمن، لنجعل من الماضي حاضرًا حيًّا متجليًا فيما نأخذ وما ندع من شئون الحياة.
إحياء التراث هو أن يخرُج قارئه ودارسه بروحٍ يستمدها مما قرأ أو درس، ليبثها في حناياه، فإذا هو مصطنعٌ لنظرةٍ جديدةٍ، من شأنها أن تَعقِد الأواصر بينه وبين السلف الذي أحيينا تراثه، حتى ولو وقف من مضمون إرثه موقف الناقد أو المُتشكِّك. فإذا قرأتُ ديوان المتنبي قراءة إحياء، خَرجتُ منه وقد سرت في عروقي كبرياؤه، ثُمَّ لا ينفي ذلك أن أقف منه موقف الناقد، المهم هو أن أعيد شيئًا من حياة المتنبي في حياتي، أو قل إن المهم هو أن «أتقمصه» ولو إلى حين، وبعدئذٍ يترسب مني في نفسي ما يترسب ليبقى. ولو قرأتُ أبا العلاء المعري قراءة إحياء، لخرجتُ منه آخر الأمر بنظرةٍ هي كنظرة الطائر التي تنظر إلى الأشياء من علٍ فتعرف نسبة بعضها إلى بعض، فلا يكبر في عيني صغيرها ولا يصغر كبيرها، بعد أن كُنتُ قبل قراءته أنظر إلى تلك الأشياء نفسها نظرة الدود الزاحف على بطنه تعترضه الحصاة الصغيرة فيحسبها في حجم الكوكب التي لا تحده حدود.
اقرأ شيوخ المعتزلة قراءة إحياء، تخرج منهم إنسانًا يعتد بإرادته الحرة، التي أسبَغَت عليه كرامة الإنسان؛ لأنها ألقَت على كتفَيه تبِعات الإنسان. أو اقرأ أبا الحسن الأشعري قراءة إحياء، تجدك بعدئذٍ قد عَرفتَ لعقلك حدودًا، فعرفتَ ما له وما عليه؛ فله أن يذهب في التعقُّل إلى آخر مداه لا حرج عليه ولا قيد، لكنه إذا ما بلغ ذلك المدى بقِيَت أمامه بقيةٌ لا تدخل في نطاقه، فيحيلها إلى منطقة الإيمان.
لكن هذا القول نفسه يدلنا دلالةً واضحةً على أن ما كل موروث يجب إحياؤه بهذا المعنى. إنني عندما بَلغتُ من الكتابة هذا الموضع وَثبَت إلى ذهني أسطرٌ من خطبة الحجاج بن يوسف، حملونا على حفظها والإعجاب بها عندما كُنَّا صغارًا لا نُميِّز في المحفوظ بين قول وقول؛ فكم مرة طُلب مني أو من رفاقي في الدرس أن ننهض لنلقي في نغمة الخطباء قول الحجاج: «أنا ابن جَلا، وطلَّاعُ الثنايا، متى أضعِ العمامة تعرفوني. إني — والله — لأرى أبصارًا طامحة وأعناقًا متطاولة، ورءوسًا أينعت وحان قطافها، وإني أنا صاحبها، كأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى …»
فهل فتح المعلم يومئذٍ أبصارنا لننفر من صاحب هذا القول، حتى ولو كانت بشاعة معانيه لبِسَت ثوبًا لفظيًّا من حرير؟ هل أوحى لنا المعلم يومئذٍ بأن نتساءل في أنَفَة وعِزَّة، ماذا تكره يا حجاج من الأبصار إذا طَمحَت ومن الأعناق إذا تطَاوَلَت؟ إن مثل هذا التراث من حقه أن يكون موضع درس عند علماء التاريخ السياسي، بل والتاريخ الأدبي، لكن ليس من حقه أن «يحيا» في نفوس قارئِيه أو دارسِيه.
إننا في موقفنا من التراث، ينبغي أن نَتبيَّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض، فندرسهما معًا، ولكن ندرس الأبيض ليحيا في سلوكنا، وندرس الأسود ليموت في ظُلمته.