أفكار مغرضة
لست ممن يكيلون التهم جزافًا على رءوس المُفكِّرِين الغربيين فيما يكتبونه عن الثقافة العربية في شتى عصورها؛ لأنني أعلم علم اليقين كم أفادنا أولئك المُفكِّرون حتى في فهم أنفسنا، مضمونًا ومنهجًا. ومن أضخم الأفكار التي عُرف بها نفر من قادة الفكر العربي في عصره الحديث، والتي كانت من أسباب سيرورة ذكرهم بين الناس، وسطوع أسمائهم على أقلام الكُتاب، أفكارٌ استُعيرَت في أساسها من هؤلاء المُفكِّرين الغربيِّين؛ فهو إجحاف في الحكم أن نُوجِّه تهمة التعصُّب العِرقي أو الديني أو الثقافي إليهم جميعًا، وفي جميع ما كتبوا. وواجب الإنصاف العلمي يقتضينا أن نأخذ كل فكرة من أفكارهم على حدة، لنُميِّز على مهل بين الحق والباطل.
وبرغم هذه الحَيطة كلها، وهذا الحَذر العلمي كله، فقد رأيتني في حالاتٍ كثيرةٍ أقف أمام ما أقرأه عنًّا مما يكتبه رجال الفكر في الغرب أحيانًا، وقفة الذاهل المُتعجِّب من العمى الذي يصيب به التعصب أولئك الناس حينًا بعد حين، حتى ليقولوا من الرأي ما لا يجوز قوله من صغار الصبيان الذين لم يستقر لعقولهم منطقٌ بعدُ. إنه «الغرض» يُعمي ويُصم. وحقًّا إن الغرض مرضٌ كما يقول عامتنا في أحاديثهم الجارية.
وخذ أمثلةً قليلةً من كثيرٍ صادَفتُه على تراكُم الأيام.
إن من الحقائق المعترف بها، والتي يتعذر إنكارها حتى على الجاحدِين، أن الفكر العربي قد اضطلع بدورٍ نادرِ الحدوث في تاريخ الفكر البشري كله؛ ألا وهو تحطيم الحاجز العنيد الذي لبِث قرونًا طوالًا يفصل بين حضارتَين وثقافتَين وطريقتَين من الحياة ومن النظر؛ وأعني بهما بلاد الفرس وما وراءها تجاه المشرق، وبلاد اليونان وما وراءها تجاه الغرب، مما أجرى على الألسنة — بحق — تفرقة بين ما أسموه «شرقًا» من جهة وما أسموه «غربًا» من جهةٍ أخرى، ومن الأولى قامت إمبراطورية الساسانيَّين، ومن الثانية قامت إمبراطورية البيزنطيِّين. وإننا لكثيرًا ما نقرأ عن حروب الإسكندر الأكبر، التي اكتسح بها الرقعة كلها. إنه كان يمتلك الحروب رائدًا في الثقافة الإنسانية، إلى جانب عبقريته العسكرية. والمراد بتلك الريادة الثقافية هو أنه أزال شيئًا من الحاجز الحضاري الذي أشرنا إلى قيامه بين «شرق» و«غرب».
لكن ما صنعه الإسكندر الأكبر في هذا السبيل لا يكاد يُذكَر بالقياس إلى ما أدَّته في ذلك الفتوح الإسلامية وما صحِبها بعد ذلك من فكر عربي، لأن الدمج لم يكتمل منه شيء على يدي الإسكندر الأكبر، بينما اكتمل على أيدي المُسلمِين، وأصبح في حدود الممكن، بل في حدود ما قد وقع بالفعل، أن نُقِلَت الثقافتان اليونانية والفارسية إلى العربية، فالتقى الضدان المزعومان في تركيبةٍ فكريةٍ واحدة، هي التي صارت بعد ذلك تُعرَف بالثقافة العربية.
كل ذلك معروف ومُعترَف به. فمن ذا يلومني إذا قلت إنني وقفتُ والدهشة تملأني، حين وجدتُ مفكرًا غربيًّا — بعد اعترافه بالدمج الفكري الذي صنعه العرب — عاد ليقول إن العرب برغم ذلك ظلوا «شرقًا» لم يتأثروا بالصِّبغة الثقافية التي صنعوها بعقولهم. كيف كان ذلك يا مولانا؟ وهل صنع العربي تلك الصيغة الجديدة لتكون مجالًا للهوهم، أم هم صنعوها ليُصدِّروها لك وليحرموا أنفسهم مما صنعوه؟ وما كُنَّا لنهتم بوصفنا «شرقًا» لولا أنهم هناك، وفي مثل هذا السياق من الحديث، يَقرِنون صفة «الشرق» بصفاتٍ ذميمة، أقلها الطغيان.
وخذ مثلًا آخر: قال قائل منهم إن الرقعة العربية صَنعَت للعالم طريقة الكتابة بالحروف الأبجدية (عظيم)، ونقلت الكتابة من فينيقيا إلى اليونان، حيث تطورت هناك (عظيم)، فنَتجَت عن ذلك نتيجة تَلفِت النظر (ماذا يا ترى؟) وهي أن العرب قدَّسوا ما هو مكتوب، كأنما عبدوا الأحرف التي صنعوها، على حين استطاع اليونان أن ينظروا إليها نظرتهم إلى أداةٍ للفكر، لا نظرتهم إلى مُقدَّسٍ معبود! (الله أكبر!) فبدل أن يجعل ابتكار الطريقة بالأبجدية لمْعة ذكاءٍ نادر، ودليل إبداعٍ حضاريٍّ ممتاز، راح صاحبنا يلتمس لنفسه طريقًا يصل به إلى حرية الفكر عند اليونان وعبودية الفكر عند العرب، مستندًا في ذلك إلى عبقرية العرب. أفرأيت أعجب من ذلك منطقًا؟ مرة أخرى نقولها: حقًّا إن الغرَض مرَض، كما يجري على ألسنة الناس في حياتهم الجارية.