أسطح بغير أعماق
ليس من قبيل التشاؤم الأحمق، أن نقول عن «الأدباء» من رجال هذا الجيل، إنهم يَحيَون في أدبهم حياةً على الأسطح لا تعرف الأعماق. ومن هنا نراهم وقد جاءوا عبثًا على مسيرة الثقافة العربية أكثر مما جاءوا ليكونوا محركاتٍ لها نحو الأمام.
ليس من حق الكاتب — أي كاتب — أن يُلقي بألفاظه على الورق دون أن يُضمِر لها في نفسه دلالاتٍ مُحدَّدة، يخرجها إلى العلانية إذا ما طُلب إليه تحديد معانيه. وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة لأي كاتب بصفةٍ عامَّة، فإني أشعر أنه أَلزمُ لي بصفةٍ خاصة، لكثرة ما دَعوتُ إلى ضرورة إلجام كلماتنا بمعانيها المُحدَّدة، حتى لا تشطح بنا إلى عالم الأوهام.
وها هنا جاءت لفظتان تُريدان شيئًا من التحديد قبل المُضي في اتهام أبناء هذا الجيل بما اتهمناه؛ ألا وهما لفظة «السطح» ولفظة «العمق» حين يكون الحديث مُنصبًّا على أدب وفكر وثقافة.
•••
ونقولها باختصار: إنه إذا كان ثَمَّةَ من فكر أو أدب أو ثقافة بصفةٍ عامةٍ فلا بُدَّ أن يكون مدار الحديث آخر الأمر هو «الإنسان». وحتى إذا كان الموضوع مأخوذًا من الطبيعة التي تحيط بنا، فإنما يأخذه الكاتب مأخذًا يمسُّ به حياة الإنسان من قريبٍ أو من بعيد. وقد نستثني من هذا التعميم «العلوم» بنوعيها؛ العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية. ومع ذلك، فحتى هذه منسوبةٌ إلى الإنسان مُبدعها بوجه من الوجوه.
لكن لِنقصر حديثنا على «الأدب» حتى لا يتشعب بين أيدينا بغير طائل؛ فالأدب في أي شكل من أشكاله (الشعر، والقصة، والمسرحية، والمقالة حين تكون مقالةً أدبية) أوله إنسان وآخره إنسان، لكن هذا الإنسان إذا كان سلوكه يظهر أمام الأبصار، فيَسهُل وصفه في الكتابة الأدبية؛ فإن وراء السلوك الظاهر دوافعَ تَخفي عن الأعين، إلا عينَي الأديب. ومعنى ذلك أن الوقوف عند الجانب الظاهر هو وقوف عند «السطح» والتماس ما وراءه في خفاء النفوس هو غوص إلى «العمق».
وواضح أن الأدب إذا كان من شأنه أن يُغيِّر قارئِيه، فإنما يجيء هذا التغيير بكشفه عن الخبيء من أغوار النفس؛ فحياة القوم لا تتغيَّر إلا إذا تغيَّر ما بأنفسهم من الداخل، كما ينضبط سير عقارب الساعة بضبط تروسها.
والذي نفهمه هنا هو أن أدباء هذا الجبل، لا يكتبون ما من شأنه أن يُغيِّر أحدًا، أستغفر الله، بل إنه يشد إلى الوراء؛ لأنهم لا يَمسُّون بأقلامهم أوتار القلوب؛ لأنهم (وهذه نقطة لها أهميتها البالغة) لا يكادون يجعلون لأدبهم «شكلًا» (أعني الفورم) وإذا خلا الإبداع الأدبي من شكله فهو لا شيء.
أقول ذلك وفي ذهني «الفورم» بأدق معانيه، والذي هو الطريقة التي تُرتَّب بها أجزاء القطعة الأدبية، ترتيبًا يخطو به القارئ خطوةً خطوةً إلى أن يصل إلى النتيجة المطلوب رسوخها في النفس. شكل القطعة الأدبية هو نفسه «فكرتها» وفكرتها هي شكلها. فإذا قلنا إن أدباء هذا الجيل تفوتهم طريقة البناء المُؤدِّية إلى التأثير المطلوب، فقد قلنا بالتالي إن أدبهم يخلو من «الفكرة» كأنما هو لغوٌ بغير مضمون.
•••
لسنا نريد للشاعر أو للكاتب أن يعرض علينا «عمليةً مجرَّدة» لأن هذه مجالها العلوم، لكننا نريد لكل إنتاجٍ أدبيٍّ ذي قيمة أن يُجسِّد أفكارًا عامةً في صورٍ فرديةٍ جزئيةٍ لنراها بأعيننا فنتأثر. فمسرحية «أوديب» — مثلًا — جسَّدَت نظرية التحليل النفسي في موقفٍ مُتعيِّن، وبهذا فهي تبلُغ من نفس القارئ أو المُشاهد، مبلغًا أعمق، مما تبلغه النظرية العلمية المقابلة لها عند الدارسِين.
ومن جهةٍ أخرى لا نريد للأديب أن يجعل الأفكار التي يُجسِّدها في أدبه، عائمةً على السطح حتى لا ينقلب الأدب إلى وعظٍ أخلاقيٍّ فينعدم تأثيره. إن معظم ما يكتبه كُتَّابنا اليوم، وأعني الكتابة الأدبية، لا يُثير في الناقد شهوة النقد؛ إذ ماذا يكون عمل الناقد إلا أن يقرأ لنا القطعة الأدبية من «أعماقها» التي تَخفى عادةً عن أعين عامَّة القراء، فإذا كان المكتوب سطحًا تراه كل عين وليس له أغوارٌ تحتاج إلى ناقدٍ فاحص، ففيم يقوم النقد الأدبي؟
كثيرًا ما أسأل نفسي: لقد بَدأَت نهضة الأمة العربية منذ أول القرن التاسع عشر؛ أي إنها بَدأَت قبل أن تبدأ النهضة في اليابان بنحو سبعين عامًّا، فلماذا يلكأ بها السير؟ ويكون جوابي كلما أَلقيتُ السؤال هو: عِلَّتُنا هي وقوفنا عند الأسطح، ولا نغوص إلى الأعماق.