علموهم تذوُّق الفن
كان أفلاطون في تصوُّره للدولة المثلى، قد حذف الفن من مُقوِّمات الدولة كما تَصوَّرها. وأظنه قد قصَر مفهوم «الفن» في سياق حديثه على الشعر والتصوير. وكان مُبرِّر الحذف عنده هو أن الشاعر أو المُصوِّر إنما يقدم لنا تصويرًا لشيءٍ ما، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الشيء نفسه أقرب إلى الصدق من صورته المرسومة له في كلمات الشاعر أو في خطوط المُصوِّر وألوانه، فما حاجتنا — إذن — إلى ذلك التصوير ما دام الشيء المُصوَّر قائمًا بين أيدينا وأمام أبصارنا؟ أيهما أولى بالنظر: شجرة الورد في بستانها، أم تصويرٌ لتلك الشجرة بقلم الشاعر أو بريشة الرسام؟
على أن أفلاطون لم يكن ليرضى للإنسان أن يلتمس المعرفة الصحيحة في الأشياء نفسها، بل أراد له — إذا أراد معرفةً صحيحةً بشيءٍ ما — أن يجاوز ذلك الشيء المحسوس إلى فكرته المجرَّدة، كأن يجاوز شجرة الورد المحسوسة، إلى تعريفها العقلي. وإنه لتعريفٌ يُجاوِز بدوره عقول أفراد الناس؛ لأنه إذا فني هؤلاء الناس جميعًا، بقيَ التعريف العقلي لشجرة الورد، أو قل بَقِيَت فكرتها، أو بقي نموذجها في عالم المعقولات؛ بحيث يخلقها الخالق مرةً أخرى إذا شاء، كما خلقها أول مرة.
ومعنى هذا الذي قلناه هو أن تصوير الشيء المُعيَّن في دنيا الفن يَبعُد بنا عن الحق خُطوتَين؛ فهو — أوَّلًا — أقل صدقًا من الشيء نفسه، ثُمَّ هذا الشيء نفسه — ثانيًا — أقل صدقًا من النموذج العقلي الذي قد خُلق على غِراره. وعلى هذا الأساس أوصى أفلاطون بألَّا يكون في الدولة المُثلى التي تنشُد العلم الصحيح بالكائنات، شاعرٌ أو مُصوِّر.
لكنه برغم موقفه هذا الرافض للفن، أصرَّ على أن تكون الموسيقى جزءًا أساسيًّا ضروريًّا من التعليم، منذ الطفولة الباكرة. لماذا؟ لأن دوام الاستماع إلى الموسيقى من شأنه أن يترك في نفس المستمع خصائص الموسيقى، التي من أهمها ذلك التناسُب المُحكَم بين الأصوات، الذي لولاه لتَحوَّلَت أنغامها إلى خليطٍ صوتيٍّ تنفر منه الآذان.
وهنا نستطيع اليوم أن نُدرك الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الفيلسوف عندما حذف الشعر والتصوير من دولته المثلى، لظنه بأن هذَين الفنَّين إنما يُصوِّران الأشياء كما هي؛ فالطائر طائر، والشجرة شجرة، وهلم جرًّا. لكن ماذا كان أفلاطون ليقول: لو أنه عاش بيننا اليوم؛ حيث الشعر إيحاء والتصوير تجريد؟ ألم يكن ليرى أن ما يبقى منهما في نفس المتلقي، هو نفسه الذي يبقى من الموسيقى؟ أعني: إدراك ما بين الأجزاء من تناسُبٍ مُحكَم، ومن وحدةٍ تضم تلك الأجزاء في كِيانٍ مُوحَّد، لولاه لأَصبَحَت الأجزاء أشتاتًا بغير معنى؟
وأخلص من هذه إلى النتيجة التي أُريد عرضها، وهي ضرورة أن نُدخل في تعليمنا لأبنائنا مُقرَّراتٍ أساسيةٍ تفي بالتذوُّق الفني، على تعدُّد أنواع الفن واختلافها. إنني أرى العلاقة وثيقةً بين «الهرجلة» التي تشيع في حياتنا — وأقصد حياة العربي في أي قطرٍ من أقطار الوطن الكبير — أقول إني أرى العلاقة وثيقةً بين الفوضى التي تُفتِّت قوانا وتُفكِّك أوصالنا، وبين حرماننا من نشأة يكون التذوق الفني مُقومًا من أهم مقوماتها؛ إذ يكاد يستحيل — في ظني — أن ينشأ ناشئ على إدراك ما في القطعة الفنية — كائنًا ما كان منها — من تعاوُنٍ بين أجزائها يُوحِّدها ويحفظ النِّسَب الصحيحة بينها، ثُمَّ يجنح بعد ذلك إلى الفوضى؛ فما الفوضى إلا امتناع الكيان المُوحَّد، واضطراب النِّسَب بين الأجزاء.
ثُمَّ أضيف ثمرةً أخرى، نجنيها من أبنائها إذا ما أُكسبوا القدرة على تذوُّق الفنون، وهي ثمرة أَشرتُ إليها وأَلححتُ عليها في مناسباتٍ كثيرةٍ سابقة، وأعني بها الرابطة التي تربط العرب المُعاصرِين بالعرب الأسبقِين، وهي رابطة في صميم الصميم من إحياء المجد العربي بإحياء تراثه؛ فليس إحياء التراث هو أن نُقيم له هيكلًا ثُمَّ نجلس في ظله لنستريح، بل هو أن تشرَّب روح ذلك التراث تشرُّبًا يسري به في الشرايين. كيف؟ بأن «يتذوق» الأبناء فنون الآباء؛ فقارئ البحتري — مثلًا — إذا قرأه قراءة المُتذوِّق، بمعنى أن يَدخُل في جلد الشاعر، ليرى بعينَيه ويسمع بأذنَيه، كان وكأنه البحتري في رؤيته للعالم وللناس وللأحداث من حوله. ومثل هذا الدمج الذي تُحقِّقه لنا لحظات التذوُّق الفني لتراث أسلافنا، هو في مُقدِّمة العوامل الكفيلة للمعاصرِين أن يجيئوا استمرارًا للأقدمين في الروح والجوهر، وإن اختلفت بينهما بالضرورة تفصيلات العيش.
علموا أبناءنا كيف يتذوقون الفن بمختلف أشكاله، تُعلِّموهم حب النظام، وجِدِّية العمل، وتنسيق الوسائل مع الأهداف، وتُنشِّئوهم تنشئة التهذيب والإحساس بالكرامة، ثُمَّ تُعلِّموهم فوق هذا وذاك أيَّ الطرق يَسلُكون ليستلهموا ماضيهم المجيد من أجل حاضرٍ أمجد.