وللحياة أسلوبها
إنني أحب ألفاظ اللغة — واللغة العربية بصفة خاصة — حُبًّا كثيرًا ما يحملني على ترك ما أكون بصدد الكتابة فيه، حتى أَتعقَّب لفظة بعينها: كيف جاءت، وماذا يحتوي جوفها من لباب. ولم يحدث أن تَناوَلتُ لفظة بمثل هذا التشريح إلا وقد وَجَدتُ في حناياها رحلةً عجيبةً في أطوار التاريخ وتطوُّراته؛ فأرى عقل الجماعة التي صَنعَت تلك اللفظة صنعًا؛ أقول إني أرى عقلها وهو يعمل، وأحس شعورها وهو ينبض، كلما لَمَحتُ لفتةً جديدةً في مسار اللفظة خلال الزمن وتَغيُّراته.
وأذكر أني منذ أعوامٍ طويلة — ربما بَلغَت الثلاثين عامًا — أردت الكتابة في الخصائص المُميِّزة ﻟ «أسلوب» العقاد، لكنني ما كِدتُ أستوي في جلستي، وأنشر الورقة، وأرفع القلم، حتى تَحرَّك في رأسي شيطان اللفظة، فأثار في نفسي السؤال: من أين جاءت كلمة «أسلوب» هذه؟ إذا كان أصلها الثلاثي هو «سلب» بمعنى «سرق» أو مرادف من مرادفاتها، فماذا يا تُرى العلاقة بين «الأسلوب» بمعناها الذي نعرفه لها، وهو السرقة؟
تَركتُ مكاني وقَصدتُ إلى حيث القواميس العربية المُطوَّلة، التي تُعطيك الكلمة وأصولها وفروعها، وكأنها تقدم لك شجرة أنسابٍ لأسرةٍ عريقة الآباء والجدود، وظللتُ أتعقَّب معنى «سلب» إلى أن بَلغتُ غايتي، وهي أن «أسلوب» الكاتب أو الفنان إنما سُمِّيَ كذلك لأن صاحب هذا الأسلوب قد استطاع أن يستلب من نفسه كوامنَ سرها. لقد كانت النفس منطويةً على خبيء من جوهرها، كأنها تحرص على أن يظل خافيًا عن أبصار الناس، فجاء صاحب تلك النفس — إذا كان أيضًا صاحب «أسلوب» — فانتزع من نفسه سرها، ونشره أمام الناس، على الورق أو غير الورق من وسائط.
وإذن فمن لا يكشف عن حقيقة نفسه فيما يُبدعه من أدب أو من فن، كان غير ذي أسلوب. ولقد عادت إلى ذاكرتي الآن هذه القصة كلها، فتأمَّلتها، ثُمَّ لم ألبث أن اتسَعَت أمامي رقعة المعاني المتلاحقة المترابطة، فقلت:
إننا في هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها الأمة العربية، لفي أشد الحاجة إلى من يُحلِّل لنا أصولنا الفكرية والأدبية والفنية، ليكشف لنا عن «أسلوبها»؛ أي ليكشف لنا عن جوهرها الكامن وراء ستائر التبصير المختلفة؛ فليس الأسلوب بمعناه الحقيقي الذي ذكرناه، بمقصورٍ على أسلوب الكاتب الفرد أو الفنان الفرد. لا، بل ليست هذه الأساليب الفردية بذات خطرٍ كبير. وإنما الأهم هو أن نعثر على الأسلوب العربي في عمومه؛ أسلوب الحياة، وأسلوب الثقافة، وأسلوب الحضارة، بالإضافة إلى الأسلوب الفني العام، بغض النظر عن خصائصِ الأفراد المُبدعِين، أو خصائصِ المجالات المختلفة في دنيا الفكر والفن.
وما ذلك الأسلوب العام الشامل إلا لعناصرَ ثَبتَت على الأيام؛ فلكل أمةٍ جوانبُ تتغير مع موجات الزمن المتلاحقة، لكن لكل أمة كذلك من الركائز ما يَثبُت كأنه الطود الراسخ. فإذا وجدنا تلك الشوائب في الرؤية العربية، وَجَدنا بالتالي أسلوب العربي في وقفته من الكون ومن الإنسان.
فلقد يتعدد ويتنوع النتاج الحضاري والثقافي عند أمةٍ عريقةٍ كالأمة العربية، لكن الناقد البصير، يستطيع أن يلتمس خلال ذلك التعدُّد والتنوُّع، خيطًا رابطًا، فإذا ما وقع عليه، كان هو أسلوب الأمة في فاعليتها العقلية والوجدانية. وإننا نختصر زمن النهوض إذا نحن قدَّمنا للجيل الراهن من شبابنا حقيقة الأسلوب العربي في كل مناحي حياته. وعندئذٍ فقط لنا أن نَتوقَّع من الموهوبِين أن يقيموا بناءاتهم الفكرية والفنية على ذلك «الأسلوب» دون تَكرارٍ للموضوعات والمضمونات التي جاءت على ألسنة الأقدمِين وأقلامهم وسائر مُبدَعاتهم في دنيا الثقافة والحضارة.
الأسلوب هو صاحبه — كما يقول الإنجليز — أي إنك إذا عَرفتَ لأحدٍ من الناس، أو لأمةٍ من الأمم، أسلوبها في العيش وفي الصناعة وفي الابتكار … إلخ، عرفت حقيقته؛ لأنه لا فرق بين الجانبَين؛ فقد قال سقراط ذات مرةٍ لرجلٍ جلس مع سائر من أحاطوا بالفيلسوف، لكنه جلس صامتًا، فقال له سقراط: كلمني يا هذا لكي أراك! وها هم أسلافنا قد تكلَّموا وتكلَّموا، وكلامُهم مُثبَتٌ في الصحائف. فلم يَبقَ علينا نحن الأخلافَ المُعاصرِين إلَّا أن نراهم من خلال ما قالوا وما صنعوا.