ديمقراطية الثقافة
الغموض في حياتنا الثقافية ضاربٌ بسُحبه الدكناء؛ فالرؤية مبهمةٌ وشِعاب الطريق أمامنا يختلط بعضها ببعض. ولا غرابة أن تتعثر الخطى ويتلكأ السير. وحتى الأفكار الرئيسية الكبرى، التي على هُداها تُرسم مُخطَّطات التنفيذ، قلما نظفر منها ولو بقليلٍ من تحديد معانيها وتمييز معالمها. ونسوق في هذه الكلمة مثلًا مما تجري به الألسنة بين قادة الحركة الثقافية في الوطن العربي عن «ديمقراطية الثقافة» ووجوبها.
فالغموض هنا غموضٌ مرُكَّب، فلا «الديمقراطية» مُوحَّدة المعنى بين من يستعملون هذه الكلمة في مجالات الحياة المختلفة، ولا «الثقافة» محدودةُ التعريف في جميع استعمالاتها؛ فينتج عن ذلك أن تجيء عبارة «ديمقراطية الثقافة» في درجة غموضها حاصلًا لضرب الغموضَين. ومع هذا الغموض كله لم نجد أحدًا ممن يُعنَون فينا بالتخطيط للثقافة العربية، يَتردَّد ولو للحظةٍ قصيرة، حتى تتبين له معالم المعنى.
ولهذا نقع في مفارقاتٍ كثيرة، أقل ما يُقال فيها، إنها تحد من سرعة السير؛ فنحن نخلط هنا خلطًا خطيرًا بين معنيَين؛ أحدهما هو الديمقراطية بمعنى المساواة الكاملة بين الأفراد، والثاني هو الديمقراطية بمعنى المساواة في «الفرص» المتاحة للجميع. فإذا أخذنا بالمعنى الأوَّل في دنيا الثقافة، نتج لنا الرأي العجيب الذي يأخذ به كثيرون مُضلَّلون مع الأسف العميق، وهو أن يراعي في الإنتاج الثقافي أن يكون «للشعب». ومُؤدَّى ذلك ألا يُبدِع المبدعون شيئًا في الأدب أو الفن، إلا إذا كان في مُتناوَل أفهام الجماهير، أو — على الأقل — واضحٌ وفاضح، لكنه برغم ذلك خلطٌ شائع.
وأمَّا إذا أخذنا بالمعنى الثاني، الذي هو أن تكون المساواة المطلوبة مساواةً في الفرص المتاحة، نتج عن ذلك — في نهاية الأمر — أن تكون لكل درجةٍ من درجات السُّلَّم الثقافي في أبناء الشعب ثقافتها التي تلائمها. فلا بُدَّ أن نقدم للشريحة العليا طعامها الفكري والفني، بنفس الضرورة التي نُقدِّم بها للقاعدة العريضة من أبناء الشعب طعامها. لا، بل إني لأجازف فأقول إنه لو كان لإحدى المجموعتَين أولويةٌ منطقيةٌ على الأخرى، لكانت الأولوية لأفراد الذروة العليا في الحياة الثقافية؛ لأنهم هم الذين يعودون فينقلون تحصيلهم إلى من هم دونهم درجةً أو درجات. وإلا فمن الذي يكتب الكتب، أو يُذيع في الراديو والتلفزيون، موجِّهًا كتابته أو إذاعته لعامَّة الشعب، أو للأطفال أو لربات البيوت، ولغير هؤلاء وأولئك، إلَّا من الذي يكتب الكُتب، أو يُذيع في الراديو والتلفزيون، موجِّها كتابته أو إذاعته لعامَّة الشعب، أو للأطفال أو لربَّات البيوت، ولغير هؤلاء وأولئك، إلَّا من هم أقدر على العطاء الفكري؟
لقد كان في الأحكام النقدية التي أشاعها «تولستوي» فانتشرت بعد ذلك انتشارًا واسعًا، قوله بأن مقياس الأدب أو الفن هو أن يستطيع تذوُّقه أقل الناس تحصيلًا وأكثرهم تحصيلًا على حدٍّ سواء، وهو رأي، حتى إن أصاب، فصوابه مرهونٌ بقيودٍ تُحدِّده. وإلَّا فقد يستطيع الإنسان من عامة الناس والإنسان من صفوة المُثقفِين على السواء أن يتذوقوا قطعةً موسيقيةً أو لوحة، أو نغمة قصيدة من الشعر أو قصة أو مسرحية، لكن الرجل من الصفوة وحده هو الذي يعرف بعد ذلك كيف يُحلِّل الناتج الأدبي والفني ليقع على أسباب الارتفاع وذلك أمرٌ له أهميته؛ لأنه إذا عرف العلة، كان موفقًا إلى صوابٍ في أحكامه النقدية، وعلى هذا التوفيق يتوقف التمييز بين الجيد والرديء.
إنني كثيرًا ما لحظت عند المناقشة في أهداف الحركة الثقافية (وخصوصًا في اللجان التي تُعقَد لمثل هذا) خلطًا بين نوعين من الإنتاج؛ إنتاجٍ يُراد به التسرية عن أنفس القارئِين والمُشاهدِين، وإنتاجٍ آخر يُبدعه مُبدعوه ليدوم على الزمن. وواضحٌ أن ما يتطلبه النوع الأوَّل من موهبة وقدرة يختلف اختلافًا بعيدًا عما يتطلبه النوع الثاني. وواجب الدولة (متمثلةً في اللجان الثقافية التي أَشرتُ إليها) هو أن تُعنَى بالنوعين معًا لأن كليهما مطلوب.
ونقول واجب «الدولة»؛ لأنه قد أصبح أمرًا محتومًا على الدولة أن تُعين الموهوبِين على إنتاج المستوى الرفيع في الأدب والفن. وذلك بعد أن ذهب عهد رعاة هذا المستوى من خُلفاءَ وأمراء ووزراء، وبعد أن أدَّت ظروف عصرنا إلى التبسيط والتسطيح (وبخاصة في وسائل الإعلام الثقافي) فلم يعُد أمام أصحاب الموهبة الرفيعة إلا أن يُعانوا بأموال الشعب عن طريق الدولة ولجانها.