الفكرة الأدبية
قد لا يصعب على القارئ أن يتصور المعنى المقصود إذا ما كان الحديث عن «الفكرة العلمية». وأمَّا أن يدور حديثنا عن الفكرة الأدبية، فالأمر عندئذٍ يحتاج إلى شيءٍ من التحديد والتوضيح فكلنا يعرف بعض الخصائص التي تُميِّز الأفكار العلمية، على اختلاف صنوف العلم. فمن ذلك مثلًا أن الفكرة العلمية لا بُدَّ أن تكون قابلةً للتحقُّق من صدقها وذلك بإخضاعها لمبادئ المنطق وقواعده في استدلال النتائج الصحيحة من الشواهد المتاحة، وغير ذلك من الخصائص التي لا مجال لذكرها في هذا المقام.
وأمَّا الفكرة «الأدبية»، فأصعب تحديدًا وأعسر منالًا. ومع ذلك فالأفكار الأدبية هي «الترمومتر» الذي نقيس به غزارة الحياة الثقافية في جماعةٍ معينةٍ من الناس. وإن كاتب هذه السطور ليتهم حياة الثقافة في الأمة العربية اليوم بضحالةٍ مخيفة، وهي ضحالةٌ أدَّت إلى كثير جِدًّا مما نحن فيه من ضعف إدراك وسهولة انقياد. فإذا طلب من صاحب هذا الاتهام أن يقيم البرهان على صدق دعواه، لم يكن له من سبيلٍ إلى ذلك سوى البحث فيما يكتبه الكاتبون العرب، عما يُسَمَّى بالأفكار الأدبية، حتى إذا لم يجدها أو وجدها هزيلةً نحيلةً كان له في هذا الضعف برهانه المطلوب.
وعند هذا الموضع من سياق الحديث لا بُدَّ من توضيح الفكرة الأدبية ما هي؟ فنقول:
أليس الأدب في عمومه يتخذ من «الإنسان» في فعله وانفعاله موضوعًا له؟ ماذا يكون الشعر وماذا تكون القصة أو المسرحية، إلَّا أن تكون عرضًا للإنسان فاعلًا ومنفعلًا؟ وحتى إذا التفَت الأديب إلى جوانب الطبيعة فهو إنما «يؤنس» تلك الجوانب حتى لكأنها في وجدانه بشر من البشر، يفعل وينفعل، ويفرح ويحزن … لكن الأديب وهو يرسم النسيج السلوكي بكل ما يكمن وراءه من حياة الوجدان، فهو إنما يقيم بناءه على «فكرة» يُضمرها، وقل أن يُفصح عنها. وبعدئذٍ تكون المهمة الأولى للناقد الأدبي، هي أن يستخرج ما قد أضمره الأديب من «فكر» في جوف عبارته التي أجراها شعرًا أو قصةً أو مسرحيةً. فإذا غَزرَت الحياة الثقافية غَزرَت معها تلك الأفكار السارية في مُبدَعات الأدب والفن. وأمَّا إذا ضَحلَت تلك الحياة، جاء النقاد وألقَوا شباكهم في الماء، فخَرجَت إليهم خاليةً أو كالخالية.
ما هي الأمانة التي عُرضت على السموات والأرض والجبال فأَبَينَ أن يحملن وأشفَقن منها وحملها الإنسان؟ إنها هي حرية اختيار الأهداف، ثُمَّ حرية اختيار الوسائل التي يراها الإنسان محققةً لأهدافه؛ فلقد رضيت ظواهر الطبيعة أن تسير وفق قوانينَ مُطردةٍ معصومةٍ من الخطأ، لكنها في الوقت نفسه أحلَّت نفسها من الحياة الخُلقية وما تستتبعه من تبِعة الفعل. وأمَّا الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي تُركت له حرية الاختيار، وعليه تقع تبعة اختياره، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فإذا تصدى الأديب لهذا الإنسان يُصوِّره شعرًا أو نثرًا، فإنما يُصوره كائنًا يختار ويُفاضل بين الأهداف وطرائق السلوك. وبهذه المفاضلة والاختيار تتجلى «القيم» التي يسير بمقتضاها. وتلك هي «الأفكار» الدفينة التي تظل كوامن في النص الأدبي إلى أن يستخرجها ناقد ويعلنها. وأمَّا إذا ضَحلَت الحياة الثقافية عند قوم، فقل أن يجد الناقد ما يستخرجه ليعلنه.
وعلى هذا الضوء اقرأ لفحول الشعراء وأعلام الأدب المسرحي أو القصصي، أو أدب الرسائل والمقامات وغيرها، تجد نفسك أمام «أفكار» كانت مُستبطَنة في البناء الفني، فإذا ما استخرجتها بالدراسة الفاحصة تبدَّت أمام عقلك جبارةً قد تشغلك بعد ذلك أعوامًا وأعوامًا؛ أن تجاور الحب والحرب، أو قل تجاور الحب والموت عند الشعراء الأقدمِين، يضعك أمام فكرة من هذه الأفكار. تقرأ «الأوريستيا» لأسخيلوس فتخرج بالحيرة أمام سؤال: أيهما أمعن في الجريمة، أن يقتل الإنسان أباه أم أن يقتل أمه؟ وهل للإجابة تعليلٌ يتصل بالمبادئ البيولوجية نفسها؟ أو تقرأ «أوديت» لسوفوكليز، فتقع في متاهة الفكر العميق عن الصلة الحيوية التي تربط الولد بأمه. وتقرأ هاملت لشكسبير، فلا ينتهي بك التأمُّل الجادُّ فيما يجبر الرجل الذي صقلته الثقافة، من تردُّد لا يسمح له بالتسرُّع في الأحكام ما دامت مواقف الحياة الإنسانية بطبعها مُبهمةً مُعقدةً مركبة ولا سبيل إلى الإلمام السريع بكل تفصيلاتها دفعةً واحدة.
ماذا لو قرأت الجاحظ في «الرسائل» أو في «البخلاء» أو في غيرهما من روائع أدبه لترى كم يوحي لك فكر يظل يلاحقك دهرًا لعله لا ينتهي؟ أو قرأت أبا حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» أو في «المقابسات»، فترى كم هي المسائل العقلية التي تُثار في ذهنك فتثيرك؟ ولا أقول شيئًا عن أبي العلاء، فأنت معه في بحرٍ لجيٍّ من الخواطر المُوحيات.
الفكرة الأدبية هي «حالة» تخرج بها من قراءتك لناتجٍ أدبي، فتكسبك هذه الحالة الوجدانية التي خَرجتَ بها منظارًا جديدًا قد تقبله وقد ترفضه، لكنه في كلتا الحالتَين يتركك أوفر حياة مما كُنت. فهل أنت واجدٌ مثل ذلك فيما يكتبه أدباء يومنا، وإذا وجدته فبأي مقدار؟!