هل هما اثنان؟
يعظم العظيم ما استطاع أن يعظم، فما دام بشرًا من البشر، فهو يصيب ويخطئ. وكلما اتسعت مع العظيم آثار المعرفة، زادت الأفكار التي يُصيب فيها، وكذلك زادت الأفكار التي يُخطئ فيها. ولستُ أنسى في هذا المجال من الحديث، المقدمة التي لم تزد على بضعة سطور، والتي قدم بها «أولفر جولد سمث» قصته «راعي ويكفيلد»، وهي المقدمة التي يُوجِّه فيها الكاتب العظيم رجاءه الضارع إلى قارئ قصته والتي هي رائعةٌ من روائع الأدب الإنجليزي، بأن يُحاسبه القارئ على أساس ما قد أصاب فيه، قبل أن يحاسبه على ما أخطأ فيه.
أقول ذلك لأمهد به لما سوف أعرضه عن عظيم الأدب العربي الجبار، أبي العلاء المعري. فلئن لم يكن في الأدب العربي شاعرٌ سواه، لحقَّ لنا — نحن العرب — أن نفاخر به وحده آداب العالمِين. ولقد سَمِعتُ العقاد ذات يوم يقول — والعقاد هو من هو في نقد الشعر — سمعته يقول عن قصيدة أبي العلاء «غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي»: إنها أعظم ما عَرفَه شِعر الدنيا قديمها وحديثها معًا. وقد يكون في هذا الرأي شيءٌ من الإسراف، لكنه برغم ذلك رأيٌ لا يخلو من صواب.
وأقول بعد هذا التمهيد، إن لأبي العلاء المعري من التصوُّرات، ما أقف إزاءها متسائلًا: أحقًّا قال المعري ذلك؟ ومصدر تساؤلي هو الخطأ الواضح الذي أراه، ما يَبعُد به عن أن يكون من أقوال المعري صاحب البصيرة النافذة. ومن أمثلة ذلك بيت الشعر المشهور الذي يُنسب إليه والذي يُضاد فيه بين «العقل» و«الدين» إلى الحد الذي يفصل عنده بين رجل يحتكم إلى عقله، وآخر يحتكم إلى دينه، كأنما هما رجلان لا يلتقيان! وعلى ذلك فالناس في رأيه مجموعتان؛ إحداهما يغلب عليها «العقل» وإذن فهي بغير دين، والأخرى يغلب عليها الدين وإذن فهي بغير عقل:
وسؤالي الآن هو: هل هما اثنان أهل الأرض حقًّا، كما قال المعري؟
الخطأ في رأيي واضح، ولو كان هذا الخطأ مقصورًا على المعري، لقلنا إنه شاعر أراد أن يجعل التضاد بين الجانبَين حادًّا ليُبرز الفَرق أمام الأبصار، وقد لا يكون في حقيقة أمره مقتصرًا في هذا الانقسام الفاصل بين الطرفَين.
لكنه خطأ عميق الجذور واسع الانتشار، ودليل ذلك تلك الكراهية الشديدة التي ما ينفك جمهور الناس يبذرونها، إذا ما ذُكر أمامهم تمجيدٌ للعقل أو تعظيمٌ للعلم الذي هو وليد العقل. لا فرق في هذه الكراهية العجيبة بين عامة الناس وبين من يسمون بجماعة المُثقفِين.
أقول إن الخطأ في رأيي واضح من عدة وجوه أوَّلُها وأَهمُّها (من وجهة نظري) أن حقيقة الأمر الواقع ليست قسمة الطرفَين — أعني العقل والدين — بين أهل الأرض؛ بحيث إذا ظفر أحدهم بنصيبه من العقل، ضاع عليه نصيبه من الدين أو العكس، إذا جاء نصيب أحدهم دينًا فقد ضاع منه نصيبه من العقل. بل الصواب هو أن هذَين الطرفَين مهما يكن بينهما من تبايُن في الجوهر وفي المنهج؛ فهما يلتقيان معًا في كل فردٍ من الناس. فكل إنسانٍ عقلٌ ودين معًا، ثُمَّ يجيء الاختلاف بين الناس في الدرجة وحدها؛ فهناك من يقوى عنده جانب العقل ويضعف جانب الدين، وهناك من يقوى عنده جانب الدين ويضعف جانب العقل، وهنالك من يقوى عنده الجانبان معًا، وهنالك من يضعف عنده الجانبان معًا.
تلك واحدة، والأخرى هي أنه برغم اعترافنا بأن الدين قوامه «الإيمان» لا براهين المنطق العقلي، إلا أن ذلك لا ينفي إمكان إقامة تلك البراهين العقلية على صحة عقيدة دينية، من ناحية المنطق، بالإضافة إلى صحتها من زاوية الإيمان. وقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، هي من آيات الفكر العربي، وخُلاصتها أن ما يصل إليه العقل الصِّرف بالنسبة للعالم المحيط بنا إنما هو نفسه الذي نزل به الوحي فقبلناه إيمانًا.
وثالثًا، إن جانب الدين عند الإنسان — عقيدةً وشريعةً معًا — هو دائمًا ميدان يُعمِل فيه الإنسان عقله ليستخرج منه النتائج التي تُنظِّم له حياته العملية. ولو كان العقل والدين عنصرَين متنافرَين، يأبَيَان أن يجتمعا معًا في صدر إنسان واحد، لما أمكن لأحدهما أن يُقام على الآخر، كالذي نراه حين يُقام فقه الدين على منطق العقل.
إنني لو كنت لأُصحِّح القول المنسوب لأبي العلاء: «اثنان أهل الأرض …» لقلت: جانبان قوامُ كل إنسان، عقل ودين معًا.