طبقات ثقافية
هن طبقات ثقافية ثلاث، لست أدري كيف يمكن أن يُضاف إليهن رابعة. كلا، ولا كيف تُحذف منهن واحدة. فقولوا ما شئتم في دمج الناس جميعًا في طبقةٍ واحدة، في ميادين الاقتصاد، والاجتماع، ومن حيث الحقوق والواجبات، أقل لكم: إلا الحياة الثقافية، فقد أراد لها الله أن تتفاوت أقدارُها في تلك الطبقات الثلاث.
أولاها، وأعلاها، طبقة يغلب أن تكون قليلة العدد جِدًّا بالقياس إلى جمهور الناس، يُميِّزها أنها تتعاقب الأفكار إلى مقوماتها الداخلية جزءًا جزءًا، ولا تطمئن لها نفس إلا إذا قام على كل فكرة برهانها؛ فهي جماعة ترفض أن يُقال لها عن فكرة — كائنةً ما كانت — إنها «بديهية» تفرض نفسها على العقل فرضًا، أو إنها معصومة عن الخطأ لأي سبب من الأسباب. فإما أن يُقام على الفكرة برهانها، وإمَّا أن تُنحَّى حتى يأتيها ذلك البرهان. وما البرهان؟ البرهان المطلوب هو أن تَرُدَّ الفكرة إلى مصدرها، ثُمَّ ترُدَّ ذلك المصدر نفسه إلى مصدره، وهكذا دوالَيك، إلى أن يبلغ بها آخر شوطها؛ وعندئذٍ ستجد نفسك في إحدى حالتَين: فإما أن تجد أن آخر الشوط إنما هو مجرد فرضٍ فرضناه، وها هنا تعلم أن السلسلة كلها ظنون في ظنون، وإمَّا أن تجد أن آخر الشوط هو لقطة بإحدى الحواسِّ من ظواهر الكون المحيط بنا؛ وعندئذٍ تعلم أن الأفكار التي بين يدَيك هي من ذوات المضمون الحقيقي الذي يجوز الركون إليه في دنيا العمل.
تلك — إذن — هي عليا الطبقات الثقافية الثلاث، وأمَّا الطبقة التي تتلوها فجماعةٌ تقف من الأمر موقفًا وسطًا، فلا هي تَتعنَّت في طلب البراهين العقلية على كل شيء، ولا هي في الوقت نفسه تقبل أن تمضي المشكلة المعروضة بغير برهان. ولكن كيف؟ إن ذلك الموقف الوسط يتحقق لها على الوجه التالي: تقول لها — مثلًا — كلمة «عدالة» أو كلمة «حرية» أو ما شئتَ من هذه المجموعة الضخمة من المعاني، التي لا هي في دقة المصطلحات العلمية من جهة، ولا هي من كلمات الحياة العملية اليومية الجارية، من جهةٍ أخرى. والعجيب في أمر هذه المجموعة من المعاني، أنها هي التي تكون عادةً مَصدر اعتراك واقتتال وتعصُّب وتحزُّب بين الناس. أقول: إنك تذكر معنى من هذه المعاني لأفراد الطبقة الثقافية الثانية، فيكاد يستحيل عليهم أن يسألوا: ما معناه؟ إذ هم يأخذون اللفظة مأخذ التسليم بأن معناها معروف، ولا محل للسؤال. ومن ذا يريد أن يسأل — من أفراد هذه الطبقة — إن كان للمساواة، أو للعدالة، معنًى مُحدَّد أو لم يكن؟ هم — إذن — يقبلون الأمر قبولًا لا يحيط به شك، لكن الذي يُطالِبون به هو ما إذا كان موقفٌ مُعيَّن، أو حالةٌ بذاتها، مما يكفل للناس تلك المساواة أو العدالة. كأنما الشك عندهم منحصرٌ في عملية التطبيق وحدها، لا في مضمون المعنى الذي يُراد تطبيقه. ومن هنا تأتي الخلافات الحادة بين الناس في هذه الميادين، فتراهم يقتتلون فيما بينهم عن «الحرية» — مثلًا — أو عن «الديمقراطية» دون أن يكون في مستطاع أحدٍ منهم أن يُحدِّد لك معنى هذا الذي يقاتل في سبيله.
وأمَّا الطبقة الثقافية الثالثة فهي عامة الجمهور، التي كفاها الله شر السؤال وشر القتال؛ فلقد أراح أبناؤها أنفسهم من وجع الدماغ، فلا هم يريدون برهانًا على الفكرة الأصلية، ولا هم يريدون برهانًا على سلامة تطبيقها.
وعلى هذا الضوء اقرأ الآية الكريمة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ففيها إشارة إلى الوسائل الإقناعية الثلاث، التي تصلح للطبقات الثقافية الثلاث، كلٌّ بحسب استعداده وقدرته، وتلك الوسائل الثلاث هي: الحكمة، والجدل، والموعظة.
والحكمة هي طريق البرهان العقلي من المبدأ إلى المنتهى. والجدل هو التسليم بالمبدأ ثُمَّ طلب البرهان على المنتهى؛ أي على نتيجةٍ معينةٍ إنما تولَّدَت عن ذلك المبدأ المسلم به، وأمَّا الموعظة فهي تلجأ إلى التأثير بطريقة الخطابة وضرب الأمثلة، دون اللجوء إلى برهانٍ عقليٍّ يُقام.
وإن نصيب أمة من التقدُّم الثقافي، يُقاس بالنسبة العددية بين هذه الطبقات الثلاث. فإذا كثُرَت الفئة التي تُصر على تحليل الأفكار الأساسية المتداولة، تحليلًا يُبيِّن على وجه الدقة مضموناتها، ومصادر تلك المضمونات، كانت الأمة على درجةٍ رفيعةٍ من الوعي الثقافي. وأمَّا إذا كثُرَت فئة الطرف الأدنى، وأعني أولئك الذين لا يُؤرِّقهم أن يأخذوا المعاني في جملتها، بغير تطلُّع إلى تحديد محتواها الفكري، ومع ذلك تراهم يَشقُّون حناجرهم بالهتاف لها أو ضدها، بل هم قد يسفكون دماءهم سفكًا على معانٍ لا يعرفون من حقائقها كثيرًا ولا قليلًا؛ أقول إنه إذا كَثُر في الأمة أمثال هؤلاء، كانت الأمة على درجةٍ متواضعةٍ من الوعي الثقافي. وبين الدرجتَين: العليا والدنيا، درجةٌ وسطى.
وإني لأتردَّد أن أذكر هنا ما يستطيع كل قارئٍ أن يلحظه في الأمة العربية بصورتها الراهنة، وهو: كم تكون النسبة العددية يا ترى بين هذه الطبقات الثقافية الثلاث؟!