حدود التسامح
منذ نَيِّف وثلاثين عامًا (١٩٤٩م على وجه التحديد) طَلبَت مني الإدارة الثقافية بالجامعة العربية أن أضع تصوُّري للثقافة العربية المعاصرة، ما أركانها؟ وكان ذلك التصوُّر مطلوبًا بمناسبة مؤتمرٍ ثقافيٍّ عربيٍّ انعقد عامئذٍ، وقد أُريد له به أن يُجمَع مع مجموعة من الآراء في مجلدٍ واحد.
وأذكر أنني أَدرتُ فكرتي حول محور التوفيق بين العقل والحرية؛ فمن أبرز ملامح عصرنا أن للعلم الطبيعي المرتكز على أجهزة، مكانةً عليا ومكانًا فسيحًا. والعلم قوامه منهج العقل بمنطقه المُلزِم، الذي لا يدع أمام الناس حرية في اختيار النتائج. وكيف يكون لنا اختيار والنتائج هي ما تنطق به الطبيعة ذاتها، حين أجبرناها على الإفصاح ببعض سرها؟ فلما شعر إنسان العصر بهذا القَيد المُلزم يَثقُل على صدره شيئًا فشيئًا؛ وذلك لأن تجارب العلم جاوَزَت ظواهر الطبيعة الجامدة إلى ظاهرة الحياة الإنسانية نفسها؛ أقول إن إنسان العصر حين شعر بقَيد الحقائق العلمية تكتم أنفاسه، التمس حريته في مجالٍ آخر، هو مجال الفنون ومجال القيم بصفةٍ عامة، فترك لنفسه عِنانها تضع الألوان والخطوط كما شاء له الهوى، وتَرُص ألفاظ القصيدة من الشعر بلا ضوابط إلا ضوابط الشاعر الفرد، وهكذا. فإذا أرادت الثقافة العربية أن تُعايش عصرها كان عليها أن تقسم نفسها بين علمٍ يلتزم الحق الموضعي الذي لا اختيار فيه، وفن تُطلق فيه الحرية الفردية لتُبدع ما وسعها الإبداع، فلا يبقى علينا إلا أن نرسم الحدود الفواصل بين ما يخضع للقَيد في مجال العلم، وما لا يخضع له بنفس المعنى في مجال الفنون.
والأمر في هذا التوفيق العصري بين ما يستلزم قيود العقل وما تُباح فيه حرية المذهب والمزاج شبيهٌ من حيث الشكل بالأمر في التوفيق الذي لجأ إليه أسلافنا العرب، عندما واجهوا ثقافةً قِوامُها «عقلٌ» جاءتهم من أوروبا أيضًا (من اليونان) في صورة فلسفةٍ وعلم، فأخذوا يُوفِّقون بين نتاج العقل كما جاء إليهم، وبين الشريعة المُوحَى بها، أو هم حاولوا التوفيق بين العقل والنقل كما كانوا يقولون بمعنى أن يحاولوا قراءة كلٍّ من شريعة الإسلام وحكمة اليونان الواحدة بلغة الأخرى.
ولكنَّ خطرةً جديدةً قد ألحَّت عليَّ منذ حين، عندما وَثبَت إلى ذاكرتي تلك المشابهة الشكلية بيننا اليوم وبين أسلافنا؛ لأنه وإن كان مبدأ التوفيق بين طرفَين، أحدهما «العقل» في الحالتَين، هو حُكم الموقف الثقافي عندنا اليوم وعند آبائنا في الماضي البعيد، إلا أنني رَأيتُ فارقًا جوهريًّا بيننا وبينهم، في سماحة صدورهم لاختلاف وجهات النظر، وفي ضيق صدورنا حتى لا تسمع إلا وجهةً واحدة.
ولم يدعني هذا الخاطر المُلِح عن الفارق بين حاضرنا وماضينا، من حيث روح التعصُّب التي تستبد بحاضرنا، والتسامح الذي تميز به ماضينا؛ أقول إن الخاطر المُلحَّ لم يدعني حتى أتناول مفهوم «التسامُح» بشيء من التحليل والتحديد، لكي تكون المقارنة أكثر وضوحًا. فلم ألبث أن وَجدتُ المِفتاح في التفرقة — أو في الخلط — بين ما «يجب» قبوله في عالم الفكر وما «يجوز» رفضه أو قبوله؛ فبينما عرف الأقدمون كيف يُفرِّقون بين المجالَين، فكان لهم ما كان من التسامُح، امتَنعَت علينا هذه القدرة اليوم، فحسبنا واجبًا ما هو جائز، وجائزًا ما هو واجب، فنتج لنا عن هذا الخلط ما نتج من تعصُّب وتطرُّف.
ولو اهتدينا إلى ما اهتدى إليه الأقدمون، لفرَّقنا بادئ ذي بدء بين ما هو «علم» وما هو «رأي». فأمَّا الأوَّل فمُلزِم للجميع إلزامًا لا مجال فيه لحرية الاختيار بين قبول ورفض. وأمَّا الثاني فلكلٍّ أن يختار الزاوية التي ينظر منها ليكون له «رأي» أو «رؤية». في الحالة الأولى لا يتعدد الحق، فإذا صح حكمٌ علميٌّ مُعيَّن، وجب أن يبطل كل حكمٍ علميٍّ يناقضه؛ كأن يصح الحكم بأن الأرض كروية الشكل، فلا يجوز لأحد أن «يختار» لنفسه القول بأنها مُسطَّحة. وأمَّا في الحالة الثانية فقد تختلف الآراء باختلاف المواقف واختلاف الثقافات، وليس من حق موقفٍ ثقافيٍّ مُعيَّن أن يكون حُجة على موقفٍ ثقافيٍّ آخر. فإذا اختار أديب أو فنان في بلد أوروبي شكلًا خاصًّا لأدبه أو فنه، اختار أديب أو فنانٌ عربيٌّ شكلًا آخر؛ فليس أحدهما حُجة على الثاني.
إلى هنا وأحسب أن الأمر واضح لا إشكال فيه، لكن ينشأ الإشكال الصعب حقًّا، حين نجد بين أيدينا موقفًا نُحس إزاءه بالإلزام وبالحرية في آنٍ واحد؛ فهنالك في مجال الرأي درجات، يهبط بعضها إلى أن يكون لكل فرد حريته في الاختيار، كألوان الثياب التي يرتديها وصنوف الطعام التي يشتهيها، ولكن بعض تلك الدرجات قد يعلو حتى ليكاد يكون له وجوب المعرفة العلمية، مع أنه ليس منها، وذلك حين يدور الرأي حول «قيمة» عليا من القيم التي تواضع المجتمع على أن تكون ركائزه التي يعتمد عليها في قيامه واستمرار وجوده؛ فمثلًا — بالنسبة للعربي — هل يجوز له أن يعبث باللغة العربية في أصولها وقواعدها وروحها؟ جوابي هو بالنفي القاطع، لا لأنه قانون من قوانين الفيزياء والكيمياء واجب الأخذ به، بل لأنه «قيمةٌ» قوميةٌ عليا، بغيرها لا يكون عرب ولا عروبة. لكن قارن ذلك بسؤال آخر: هل يجوز للفنان العربي أن يُشيِّد عمارته على غير الطراز العربي؟ جوابي هو بالإيجاب؛ لأن «القيمة» هنا تقع في مجال الاختيار.
حيث تكون الفكرة علميةً واجبة القبول، يقع على صاحبها أن يؤيدها بالدليل العلمي الذي لا يبقي للشك مجالًا. وأمَّا حيث يكون الأمر «رأيًا» أو جهة نظر من شأن من شئون الحياة، فها هنا يجوز الرفض ويجوز القبول. مع اعترافنا أن مجال الرأي ليس كله على درجةٍ سواء؛ ففيه ما يوشك أن يكون قبوله وجوبًا (داخل الأمة الواحدة) وفيه ما يقبل التفاوُت بين الأفراد.
والطريق إلى روح التسامُح في حياتنا، هو ما أن نميز بين ما يجب وما يجوز، فلا نضع أحدهما في موضع الآخر.