قسمة الحظوظ
حدَّثني صاحبي فقال: بينما كُنتُ في الصيدلية واقفًا أنتظر إعداد الدواء، غَمرَتني موجةٌ من يأسٍ مميت؛ وذلك أني نظرت خلال زجاج الباب إلى الشارع المزدحم بالسائرِين، مشاةً وراكبِين، فتذكرت أعوامًا كُنتُ فيها أخوض في زحمة الناس وحدي، قائدًا لسيارتي مرة وماشيًا مع المشاة مرات، ثُمَّ همست لنفسي قائلًا: هل ترى أحدًا من هؤلاء الألوف الذين يزحمون الطريق أُصيبت عيناه بمثل ما أصاب عينَيك؟ لكن هذه الهمسة لم تكد تبلُغ آخر حروفها حتى دخل الصيدلية رجلٌ علَّق عصاه البيضاء على مرفق ذراعه اليمنى، ومد ذراعيَه متوازيَين أمامه، يتحسَّس بهما الطريق داخل المكان، خشية أن يصطدم بشيءٍ لا يراه.
ومضى صاحبي في روايته يقول: وعندئذٍ همَستُ لنفسي مرةً أخرى: يا سبحان الله! أبمثل هذه السرعة ترسل إليَّ السماء جوابًا عن سؤالي؟ وعندئذٍ أيضًا تَذكرتُ بيتَين لشاعرٍ عربيٍّ قديم، يذكر فيها تفاوُت الناس في الحظوظ، ضاربًا لهذا التفاوُت مثلًا درجات الأبصار؛ ففيهم الأعمى الذي يقف من الإبصار عند درجة الصفر، وفيهم من يقف بين العمى والبصر عند درجة العشى، وفيهم من اكتمل عنده البصر سليمًا، وفيهم فوق هذا من هو ذو بصرٍ حديد، يُجاوز به الحدود القصوى إلى ما هو أبعد منها، وهاك ذَينِك البيتَين اللذَين قالهما الشاعر القديم:
وزَفَر صاحبي زفرةً حَرَّى، وقال: أبَعْد تلك القيود التي يفرضها علينا القَدَر، حظوظًا مقسومةً لنا، لا دخل لنا في قسمتها ولا إرادة، نسمع بين القائلِين من يزعم للإنسان حريةً يختار بها ما يريد وينبذ ما لا يريد؟
فوجدتني أسرعَ من البَرق في رد صاحبي إلى صوابه، قائلًا: لا، يا أخي، لا تخلط الأمور بعضها في بعض، كما يفعل معظم الناس، فلقد ضُرِبَت على الناس حدود، هذا صحيح، ولكنه صحيحٌ كذلك أن الناس أحرارٌ دخل تلك الحدود، فيما يفعلون وما يتركون. ولست أدري لماذا تميل بنا ثقافتنا — نحن العرب — نحو رؤية القيود التي تُحدِّد خُطانا، والتغافُل عن المجال الفسيح الذي تُرِكَت لنا فيه حرية الفعل بلا حدود؟ اسمع يا صاحبي:
سأضرب لك مثلَين يُوضِّحان ألَّا تعارُض بين قيودٍ تُفرض علينا، وحريةٍ يحُدُّها شيءٌ داخل تلك القيود، وعلى هذا المجال الحر وحده، يكون الحكم على الأفراد بأنهم أحسنوا صنعًا أو أساءوا. المثَل الأوَّل هو لعبة كرة القدم (أو أية لعبة تشاء) فهنالك قواعدُ فُرِضَت على اللاعبِين قبل البدء في اللعب، لا حِيلة لهم فيها إلا أن يَلزَموا حدودها. وأمَّا داخل حدود القواعد فلهم ما أرادوا من حركة ووقوف وقذف للكرة بأقدامهم هنا أو هناك، إلى قريب أو إلى بعيد. ثُمَّ يأتي حساب الفوز والهزيمة بناءً على تصرُّفهم في ذلك المجال الحُر.
والمثل الثاني الذي أسوقه للتوضيح، هو اللغة؛ فها هنا كذلك نتلقى لغتنا مقيدةً بطائفةٍ من قواعدَ تقيد استعمالنا إياها، فلا حيلة لنا إزاء تلك القواعد إلا قبولها ثُمَّ التصرف في حدودها؛ فليس لنا إلا أن نرفع الفاعل وننصب المفعول، وليس لنا إلا أن نرفع اسم كان وأخواتها وننصب الخبر، وأن نعكس هذا الترتيب بالنسبة إلى «أن» وأخواتها. لا، ولا اختيار لنا في أن نُطلق اسم البقرة على القطة ولا فعل القيام على فعل القعود. فإذا كنت عربيًّا، فتلك هي لغتك بمفرداتها وقواعد تركيبهم أسلمها إليك الآباء لتُسلِّمها بدورك للأبناء سليمة القواعد، نامية المفردات بقَدْر ما تنمو الحياة، لكن مفرداتها تظل على معانيها، وإلا لبطل أن يفهم حاضرون عن سابقين. قيودٌ من قواعدَ مفروضة — كما ترى — وحُدودٌ من مُفرَداتٍ تَحدَّدَت لها معانيها، ولكن هل يعني هذا أن حرية العربية قد انمحت؟ إن كل جملةٍ ينطق بها عربي، منذ أول التاريخ إلى آخره، وفي كل رقعة من الأرض نُطِقَت بلسان عربي، إنما هي برهان على أن الناطق بتلك الجملة قد مارس حريته إلى أقصاها في اختياره لما أراد من كلمات، ثُمَّ في تركيب تلك الكلمات على أي صورة شاء، داخل حدود القواعد. ولولا هذه الحرية في استخدام اللغة عند أبنائها، لما تفاوَتَت درجاتهم في جودة الصياغة، تفاوتًا قد يعلو حتى نُصبح أمام البحتري والمتنبي وأبي العلاء، وقد يهبط حتى نصبح أمام تخليط المجانين!
حرية الإرادة عند الإنسان — يا صاحبي — لا تتعارض مع قيودٍ مقسومةٍ لنا ومفروضةٍ علينا، لا، بل إنها لتقتضي حتمًا أن يكون هنالك قيود، وإلا لاستحال علينا فهم الحرية كما ينبغي لها أن تُفهم. لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تُعامِل إنسانًا — كائنًا من كان — في حياتك اليومية، إلَّا إذا كان لديك فرضٌ مُسبق، بأن ذلك الإنسان مُتماسِك الشخصية، لا يتخبط في فعله ولا يَهذي في لفظه. فإذا سألته سؤالًا، وتَوقَّعتَ منه أن يجيب وإذا نطق لك بالجواب، تَوقَّعتَ أنه يعني بالألفاظ معانيها المُتعارَف عليها، وإذا أعطاك هو سلعةً تَوقَّع منك أن تدفع الثمن، وهكذا وهكذا. إنك إذا قَرأتَ كتابًا، كان المفروض عندك أن الرموز المرقومة على صفحاته، قد أراد لها مؤلف الكتاب أن تُشير إلى المعاني نفسها التي تَعلَّمتَ أنت في المدرسة أن تلك الرموز قد اصطُلِح عليها لِتَعِيها. وإذن فلولا قيودٌ وضعناها لأنفسنا في التعامُل بكل أبعاده، لما كان في مستطاع أحد أن يُعامِل أحدًا، أو أن يفهم عن أحد.
وإذا كانت العلاقة بين القيود والحرية بهذا الوضوح، فلماذا لَبِث السؤال مطروحًا بين المُفكِّرِين وأبناء السبيل على حدٍّ سواء، وهو سؤال يسألون أنفسهم به: هل الإنسان مُجبَر الإرادة أو حر الإرادة؟ فأقول: إن السر في قيام السؤال يتحدانا طوال القرون بلا جوابٍ يحسم الأمر، هو خلط خلَطْنا به بين «الروابط السببية» من جهة، والإلزام أو الإجبار أو القهر من جهةٍ أخرى؛ فلا حرية لإرادة الإنسان إلا إذا كان ذا شخصيةً متماسكة الأفعال والأقوال بالروابط السببية التي تُتيح للآخرِين أن يتعاملوا معه وأن يتفاهموا، على أساس ما يَتوقَّعونه، ولكن حرية الإنسان فيما يختار أو يترك تذهب كلها مع الهباء إذا جاءه الإجبار من خارجه، حتى وهو على الأرض المباحة له داخل الأسوار.
فلا عيب يا صاحبي، في حظوظٍ تُقسم لنا، وتُفرض علينا، لنكون بعد ذلك أحرار الإرادة داخل حدودها، لكن العيب هو في أن تُقسم تلك الحظوظ، ثُمَّ يجيء من يفرض علينا أفعالًا وأقوالًا داخل حدودها، فنخسر الجِلد والسقط كما يُقال.