خطَّان متعامدان نحو جامعة للشعوب الإسلامية والعربية
إنني في مجال الحديث عن جامعة الشعوب الإسلامية والعربية، لا أملك شيئًا جديدًا أضيفه، اللهم إلا توضيح الفواصل الغامضة بين الفكرتَين؛ الإسلامية من جهة والعربية من جهة أخرى؛ فلقد صادفتني مواقفُ كثيرة، وجَدتُ فيها ذاك الغموض شائعًا على صورٍ مختلفة، يَحجُب عن أصحاب النظر رؤيتهم الواضحة للجوانب الواصلة والجوانب الفاصلة بين الفكرتَين؛ فكرة الوحدة الإسلامية وفكرة الوحدة العربية. وعلى غموض الرؤيا كثيرًا ما يَتولَّد غموض في خطوات العمل.
لا، لست أدَّعي في هذه الأسطر إضافة شيءٍ جديدٍ يغيب عن إدراك عامة الناس؛ فكل ما أبتغيه هو التوضيح، ويشجعني على ذلك مذهبي في أهم مهمة يضطلع بها الفكر، والفكر الفلسفي بصفة خاصة، والاتجاه التحليلي من ذلك الفكر الفلسفي بصفة أخص؛ أقول إن أهم مهمةٍ يضطلع بها ذلك الفكر، هي أن يُمسِك مِصباحًا بيمناه، وعدسةً مُكبِّرةً بيسراه، ثُمَّ ينظر إلى الأفكار الهامة المُتداوَلة في أخطر مجالات الحياة، ليرى دقائقها الصغيرة، التي هي قمينةٌ أن تَفلِت من أبصار الكثرة الغالبة، فيكون رجال الفكر في هذه الحالة بمثابة من أراد أن يرى في قطعة الخشب أليافها، أو من أراد أن يرى في الماء قد يتخيله الناس رائقًا صافيًا، ألوف الأعلاق والشوائب.
نعم، صَادفَتني مواقفَ كثيرة، رأيتُ فيها كيف تَغمُض الفواصل الفارقة، والروابط الواصلة بين المجالَين … الإسلامي والعربي؛ فقد كُنتُ ذات عامٍ قريبٍ أُحاضِر طلاب الفلسفة في الملامح الرئيسية التي تَميَّز بها الفكر العربي الحديث عند التقائه بالفلسفة الأوروبية إبَّان العشرات الأخيرة من القرن الماضي. وكان لا بُدَّ عندئذٍ أن نذكر جمال الدين الأفغاني وكتابه «الرد على الدهريِّين». ولم يكن الدهريون هناك إلا أصحاب مذاهب الفلسفة المادية في أوروبا خلال تلك الفترة. فسألني طالب قائلًا: لماذا نتحدث عن الأفغاني وكتابه، عندما يكون موضوع حديثنا هو الفكر العربي بعامة و«المصري» منه بخاصة؟ فاقتضاني الأمر عندئذٍ أن أُوضِّح: متى يكون الفكر «الإسلامي» «عربيًّا» ومتى لا يكون؟ وأن الفكر الإسلامي في حالة الأفغاني هو في الوقت نفسه فكرٌ عربيٌّ بالرغم من انتماء الأفغاني إلى أمةٍ غيرِ عربية.
وشيءٌ كهذا حدث مرتَين كُنتُ في كلٍّ منهما أُلقِي محاضرةً عامةً في موضوعٍ يتصل بفكرة العروبة فأجد من يُوجِّه الأسئلة التي تَدُل على الخلط بين المجالَين الإسلامي والعربي، لا بل إن المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق في كتابه الرائد «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» وجد من الضروري أن يبدأ بالنظر في مسألةٍ أساسيةٍ هي … أيكون الصواب تسميتها بالفلسفة «الإسلامية» أم تسميتها بالفلسفة «العربية»؟ وذلك لأن لكلٍّ من النظريتَين أنصارًا ومُعارضِين.
وكان أَقربَ ما حدث لي في هذا الصدد نقاشٌ دار بيني وبين اساتذةٍ أَجِلَّاء، على أَثَر محاضرةٍ ألقيتها في المعهد المصري بلندن ذات يوم من صيف عام «١٩٧٩م» وهنا أخذتني الدهشة عندما رأيتُ هؤلاء الأَجِلَّاء يجعلون من «الثقافة الإسلامية» و«الثقافة العربية» شيئًا واحدًا، ولم يستطيعوا قط أن يروا أن هاتَين الثقافتَين تتداخلان إحداهما في الأخرى لكنهما ليستا مترادفتَين، بمعنى أن يكون جانبٌ من الثقافة الإسلامية غير عربي، وجانبٌ من الثقافة العربية غير إسلامي. إنهم لم يستطيعوا رؤية هذا الفارق. وكان يكفيهم أن يعلموا بأن المُسلمِين يبلغون نحو ثمانمائة مليون، ليس بينهم من المسلمين العرب أكثر من مائة وعشرين مليونًا. وذلك فضلًا عن وجود دياناتٍ أخرى بين العرب.
وفي ظني أن غموض الرؤية يزول، أو يقل، إذا نحن صوَّرنا الموقف بين الجانبَين؛ الإسلامي والعربي، بخطَّين متعامدٍ أحدهما مع الآخر؛ فهنالك خطٌّ أفقي، يتعامد معه خطٌّ رأسي. أمَّا الأفقي منهما فهو يُصوِّر لنا مجال الأمة «العربية» فيما يربط أبناءها من صِلات اللغة والاقتصاد والتاريخ والسياسة وما إلى ذلك من روابطَ تتصل بالعيش هنا على هذه الأرض. وأمَّا الخط الرأسي فيُصوِّر لنا الجماعة الإسلامية على اختلاف أوطانها؛ إذ تلتقي كلها على دينٍ سماويٍّ واحد. ونقطة التلاقي بين الخطَّين تُصوِّر موقف العرب المُسلمِين، الذين يَحيَون «أُفُقيًّا» مع مُواطنِيهم العرب من غير المُسلِمين، ويَحيَون «رأسيًّا» مع إخوانهم المُسلمِين من غير العرب.
ويمكنك تصوير الحقيقة نفسها بدائرتَين متداخلتَين (لكنهما غير متطابقتَين) فها هنا تجد أمامك ثلاثة أقسام؛ قسمٍ أوسط يدمج الدائرتَين معًا في مساحةٍ واحدة، وهؤلاء هم العرب المسلمون، وقسمٍ جهة اليمين تنفرد به إحدى الدائرتَين دون الأخرى، فليكن ذلك هو للمُسلمِين غير العرب، وقسمٍ ثالثٍ جهة اليسار، تنفرد به الدائرة الأخرى، فهو للفئة الثالثة، أعني العرب غير المُسلمِين.
ولقد كان لهذه الفواصل بين الجانبَين أصداءٌ قويةٌ في التاريخ الإسلامي، حينما جاءت الدولة الأُموية عَقِب عهد الخلفاء الراشدِين، فجعلت مبدأها التمييز بين المسلم العربي، والمسلم من غير العرب (أي الموالي). ولقد كان من أمر تلك التفرِقة ما كان من حركات «الشعوبية» و«الزندقة». ثُمَّ جاءت الدولة العباسية، وحاوَلَت أن تُغيِّر من المبدأ بما يَحُد من خطورة تلك التفرقة. ولستُ في حاجةٍ هنا إلى ذكر ما قد أدَّى إليه ذلك كله من عصبياتٍ «اتفاقية» فهذا يتعصب للثقافة العربية الخالصة وذلك يتعصب لغيرها، أو على الأقل لمزيجٍ منها ومن غيرها.
والنتيجة التي أَردتُ الوصول إليها هي أننا — عند إقامة جامعة للشعوب الإسلامية والعربية — إنما نضع الأمور في نصابها الصحيح، إذا نحن أقمنا البناء على ركائز ثلاث، في صورة منظماتٍ ثلاثٍ تَتفرَّع من الجامعة المنشودة؛ إحداها للمجال الذي تلتقي فيه العروبة مع الإسلام، وأخرى للشئون التي ينفرد بها الإسلام دون العروبة، وثالثة للشئون التي تنفرد فيها العروبة دون الإسلام؛ فتحقيق الأهداف مرهون دائمًا باستقامة السبيل.