مرحلة التحوُّل
لم تكن ثلاثينيات القرن قد انتهت، حين حَدثَت في حياتي الأدبية أربعة أحداث، كان أولها ظهور مجلة الثقافة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد أمين لكونه رئيسًا للجنة؛ فوضعتُ ثقلي في تلك المجلة بديلًا عن مجلة الرسالة. وكان الحدث الثاني هو مشاركتي لبعض أعضاء اللجنة في مشرعٍ لترجمة عيون الأدب الغربي، وكان نصيبي منه كتابًا من تأليف ﻫ. ج. ولز، والكتاب ضخم، وموضوعه ميادين العمل والثراء في العالم، استهدف به مُؤلِّفه إظهار العيوب التي هي علة الأمراض الاجتماعية كلها، كما استهدف به أن يُبيِّن بأن الاشتراكية هي المَخرَج الوحيد. وكان المفروض أن يضطلع بترجمة ذلك الكتاب الضخم ثلاثة أعضاء، هم الأستاذان عبد الواحد خلاف، ومحمد فريد أبو حديد، وأنا، ثُمَّ انصرفنا في إجازة الصيف لأعود بعدها وقد أكملتُ الثلث المُخصَّص لي، ولأجد أن الزميلَين لم يكتبا حرفًا. وكان لا بُدَّ من أن يُنشَر الجزء الذي تَرجمتُه في كتابٍ مستقل، لكن ذلك الجزء المُترجَم كان يحتوي على ما يَقرُب من نصفه مما لا يُفهَم إلا موصولًا بما قبله، فحُذِف ذلك النصف، واكتفَتِ اللجنة بنشر النصف الآخر ليجيء الحديث متكاملًا، وصَدَر الكتاب بعنوان «الأغنياء والفقراء».
وأمَّا الحادث الثالث فهو أن أَعلنَت وزارة المعارف — هكذا كان اسمها في تلك الأيام — عن مسابقةٍ أدبية، فدَخلتُ فيها بكتابٍ عن المدن الفاضلة كما تصوَّرها الفلاسفة والمُفكِّرون في العصور المختلفة، وظَفِرتُ فيها بالجائزة. وكان الذي سلَّمني الجائزة — ومقدارها فيما أَذكُر يقل قليلًا عن مائة جنيه — هو الدكتور هيكل الذي كان وزيرًا للمعارف يومئذٍ. ولقد نُشر الكتاب بعد ذلك بأكثر من عشرة أعوام، وجَعلتُ عنوانه «أرض الأحلام».
وأمَّا خاتمة الأحداث التي جاءت في آخر أعوام الثلاثينيات، فهو البدء في مشروعٍ طويلٍ عريض، اتفَقتُ مع الأستاذ أحمد أمين على إنجازه، بصورة الاشتراك التي أنجزنا بها من قبلِ ذلك قصة الفلسفة؛ إذ اتفقنا على كتابة «قصة الأدب في العالم»، الذي صدر منه خلال الأعوام السبعة، فيما بعد ١٩٤٢م و١٩٤٩م، أربعة مُجلَّدات، انتهت بالقصة إلى أول القرن العشرين. ولِغضبةٍ كتمتُها بين أَضلُعي، أَمسكتُ عن تقديم الأُصول الخطية للمُجلَّد الخامس، وهو عن أدب القرن العشرين. وما زالت تلك الأصول حتى هذه الساعة «مدشوتة» بين أوراقي، لا أُريد لها أن تشهد النور.
أردنا بقصة الأدب في العالم أن تكون كسابقتها قصة الفلسفة؛ فنعتمد على مراجعَ قليلةٍ مُنتقاة، ثُمَّ نتفرع منها هنا أو هناك كلما اقتضتِ الظروف، على أن تكون العناية مُوجَّهةً نحو الصياغة السلِسة الواضحة التي يُفيد منها أوساط القارئِين. وكانت طريقة السير هي أن نقف وَقَفاتٍ مختارة، نُطل منها على أرجاء العالم في فترةٍ بعينها، لنرى ماذا كان من أدبٍ في كل رَجًا من تلك الأرجاء. ولمَّا كان الأدب العربي جزءًا من القصة، فقد كان هذا الجانب من الكتاب هو نصيب الأستاذ أحمد أمين في الكتاب. كما عهدنا الأدب الفارسي لمُختصٍّ، هو الدكتور عبد الوهاب عزام في النصف الأول من شوط المسيرة، والدكتور يحيى الخشاب في النصف الثاني منه. وفيما عدا الأدبَين العربي والفارسي كانت بقية آداب العالم نصيبي.
ثُمَّ أراد لي الله فرجًا بعد ضيقٍ طالت به السنون، وهو أن الأربعينيات لم تَكَد تبلُغ ضُحاها حتى جاءتني فرصة السفر إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه في الفلسفة. كانت الحرب العالمية الثانية في عِزِّها عندما تَحدَّد موعد السفر. وكان السفر ليكون على سفينةٍ هي إحدى مجموعةٍ من السفن تسير مُجتمِعةً لِتحرُسها المُدمِّرات والبوارج. وكانت بورسعيد هي مِيناء الرحيل. ولم يَخْصُص المدنيِّين في تلك القافلة البحرية إلا جزءٌ يسير. وكان هؤلاء المدنيون خليطًا عجيبًا، فيه من كل صنفٍ طِراز، فيه رجالٌ من السِّلك السياسي، وفيه طلَّاب العلم، وفيه الُموظَّفون من مختلف الألوان. وبَدأَت الرحلة بإرشاداتٍ إلى المدنيِّين، من قائد السفينة، وهي كلها إرشاداتٌ بالغة الصرامة والتحوُّط. وبرغم ذلك الجو الرهيب لم أشعر بأدنى درجةٍ من درجات الخوف؛ لأن الرغبة في تحقيق الأمل كانت أَشدَّ وأقوى.
وكنتُ قُبيل مغادرتي القاهرة بنحو ثلاثة أسابيع، قد شاركتُ في مشروعٍ أدبي خطَّطَت له لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو إخراج سلسلةٍ تتعقّب الفكر الحديث في أبرز معالمه. وتم اختيارنا للكتب التي أردنا لها أن تُصاغ في عبارةٍ عربية دون أن نلتزم الترجمة الحرفية. وكان نصيبي من ذلك المشروع كتابًا في النقد الأدبي من تأليف ﻫ. ب. تشارلتن، هو الذي جعلتُ عنوانه العربي «فنون الأدب». ولقد ألقيتُ على نفسي — باختياري — مهمةً شاقة؛ هي أن أختار لمادة الكتاب أمثلةً من الأدب العربي، بدل الأمثلة التي ساقها مُؤلِّف الكتاب من الأدب الإنجليزي؛ إذ إن هذه الأمثلة الإنجليزية لو تُرجمت إلى العربية فَقَدَت الجوانب التي سِيقت من أجل توضيحها، وأحمد الله على توفيقه؛ فقد جاء الكتاب آخر الأمر في صورته العربية وكأنه تأليفٌ عربيٌّ أصيل.
كان لا بُدَّ لي من مضاعفة جهدي لأَفرُغ من الكتاب في أسابيعَ قليلة قبل السفر، وذلك ما قد كان، اللهم إلا المقدمة، التي لم يكن قد بقي لها — على قِصَرِها الشديد — من وقتي ساعةٌ واحدة. وبينما نحن نعبر البحر في قافلة السفن، قِيل لنا إن للركاب أن يكتبوا ما شاءوا من رسائلَ لذويهم، على أن تُسلَّمَ أوراقًا مكشوفة؛ لأنها ستُطبع على ميكروفلم لتُرسَل مئات الرسائل معًا في بَكَرَة واحدة، وهناك في جهة الوصول، تُفصَل الرسائل بعضها عن بعض، وتُكبَّر، وتُعطى لأصحابها، فكتبتُ — فيما كتبتُ — مُقدِّمة كتاب «فنون الأدب»، وأَرسلتُها إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة.
كان الأستاذ أحمد أمين قد قالي لي ذات يوم، عندما رأى مِقدار ما أُنتجه في وقتٍ وجيز: إنك لو كنتَ من الجن، لاستكثرتُ عليك هذا الإنتاج كُلَّه في مثل هذه الأيام القليلة! فماذا عساه قائلًا لو رآني وأنا في لندن مُلتحِقًا بجامعتها، مُصمِّمًا على أن أعبَّ البحر في أعوامٍ قلائل؟ أتدري كم ساعةً كُنتُ أقضيها في مكتبة الجامعة، لا أتحرك من مقعدي؟ كنت أَوَّل طالبٍ يدخل المكتبة صباحًا عند فتح أبوابها — بالمعنى الحرفي لهذه العبارة — وآخر من يُغادر المكتبة مساءً عندما تُغلَق أبوابها، بالمعنى الحرفي مرةً أخرى. وما زلتُ أذكر طالبًا إنجليزيًّا كان يُعِدُّ هو الآخر رسالته للدكتوراه في الفلسفة، فسألني يومًا: كيف تستطيع التركيز العقلي طَوالَ هذه الساعات التي أراك فيها مشدودًا إلى مَقعَدك في المكتبة؟ إنني أخرج وأغيب ثُمَّ أعود، لأجدك ما زلتَ في جلستك غارقًا فيما يُشبه الغيبوبة، وأنا أسألك: كيف تستطيع؟ … كما أذكر أيضًا طالبًا هنديًّا صادفني في نادي الطلبة خلال عُطلة الأسبوع، فما رآني حتى جَمُدَ في مكانه قائلًا بعد صمتٍ قليل: أهو أنت؟ إنك لا تعلم كيف أشقيتَني! قلت: أنا أشقيتُك؟ كيف كان ذلك ومتى؟ قال: إنك تَكبرُني سنًّا، وكنتُ كلما أخذ مني التعب في المكتبة وأهمُّ بالرحيل، أنظر خلفي فأراك جالسًا إلى كُتبك لا تكاد تلتقط أنفاسك، فأقول لنفسي: اجلس وامضِ في عملك؛ فالذي مكَّن هذا الرجل من مواصلة العمل يجب أن يُمكِّنني، ثُمَّ أُواصل العمل حتى تنهدَّ قواي هدًّا، وأنت ما زلتَ جالسًا، فأُغادر المكتبة وأنا أَصُبُّ عليك اللعنات!
كتَمتُ الجواب في صدري، ولو أفصحتُ عنه لقلت: إنها لذة المحروم، وقد تحقق له أملٌ ظنَّه بعيد المَنال.