الصامتون والصائتون
من الناس صامتون يُنتِجون ولا يرتفع لهم صوت في المسامع، ومنهم صائتون يَملئون الدنيا صياحًا دون أن يضيفوا إلى حصيلة الإنتاج الحقيقية مثقال ذرة.
يقول «إدموند بيرك»: إذا مَررتَ بحقل وسَمِعتَ عددًا يُعد على أصابع اليد الواحدة، من الصراصير، يملأ عليك الهواء بصوته القبيح، بينما ألوف الماشية العظيمة تمضغ طعامها في صمت، فلا تحسبن أن ليس في الحق إلا تلك الصراصير، وأنه ما دام صوتها يملأ الهواء فلا بُدَّ أن تكون كثيرة العدد، بل اعرفها على حقيقتها؛ فهي جماعةٌ صغيرةٌ ضئيلةٌ نحيلةٌ نطَّاطة، هي حشراتٌ تصيح فتُقلِق بصياحها الكثرة العاملة في صمت.
ولو نال العاملون في صمتٍ جزاءهم الحق، وخرج الصائتون المُتطفِّلون ببطونٍ فارغة، لما كان في الأمر عَيبٌ يُعاب، لكن الخشية هي في أن ينهب هؤلاء حق أولئك، كما حدث لبنات الملك لير في رواية شكسبير: أراد الملك لير أن يقسم ملكه بين بناته الثلاث، فطلب منهن أن يُعرِبن له عما تُكِن له صدورهن من حب، لتجيء الأنصبة متناسبةً مع حجم الحب عند كلٍّ منهن نحو أبيها. فراحت الكبرى والوسطى منهن تُسمِعان الوالد من عبارات الحب ما لم تسمع بمثله أُذن، فانتفخ الرجل زهوًا، وخلع على كلٍّ منهما ثلث مملكته. ثُمَّ اتجه إلى الصغرى ليسمع ماذا تقول، فأجابت في ضبطٍ للنفس وقصدٍ في العبارة: أحبك كما تحب كل فتاةٍ مخلصةٍ أباها. فعاد يسألها: أهذا هو كل ما عندك نحوي؟ فأجابت: نعم هو كل ما عندي. فهاج وماج وقال لها: إذا كان هذا هو مقدار حبك لأبيك، فليس لك شيء عندي، وأمر بالثلث الباقي من مملكته أن يُقسَم نصفَين، لتأخذ كلٌّ من الكبرى والوسطى نصفًا يضاف إلى نصيبها الأوَّل. ثُمَّ دارت الأيام، فإذا الكبرى والوسطى هاتان تتنكران للوالد المسكين، وتُلقيانه شريدًا. ولم تُخلِّصه من محنته إلا البنتُ الصغرى التي نَذرَت حياتها للفضيلة الصامتة.
هكذا كانت الفجوة واسعةً بين القول والعمل عند الابنتَين الكبرى والوسطى، كما هي واسعة عند صراصير الحقل بين صوتها وحقيقة حجمها ونفعها. ومن الناس بيننا من يعيشون على مثل هذه الفجوة الواسعة بين صوتهم المسموع وإنتاجهم النافع. وأعجب منها فجوةٌ أخرى في حياتهم، بين ما يسمرون به في أحاديثهم الخاصة لأصدقائهم وخلصائهم، وبين ما يعلنونه في المحافل حين تُقام المنابر؛ فمن أيسر الأمور عليهم أن يرسموا الصورة على لونٍ في مجالسهم الخاصة، حين يدور الكلام بينهم همسًا، ثُمَّ يرسمونها على لونٍ آخرَ حين يصبح القول جهيرًا.
إنها مهارة تُثير العجب، لسرعة النقْلة عندهم من خاصٍّ إلى عام. يقول علماء الطبيعة النووية إن الكهارب التي تدور حول نواة الذرة قد لا تَثبُت في مسارها على فلكٍ واحد، بل ربما قَفزَت من فَلكٍ لها إلى فَلك، دون أن تُدرك الأبصار قفزتها. وشيءٌ كهذه الخفة السريعة والبراعة البارعة، يتسم به الصاعدون من أصحاب الصُّراخ الأجوف. وإن هذه القدرة على التشكُّل الحِربائي السريع عند هؤلاء، هي التي تضمن للحروبات طول البقاء ودوام الصعود.
ليس فصامًا في الشخصية هو ما عند هؤلاء المُنافقِين؛ لأن المُصاب بالفِصام لا يدري أنه ذو وجهَين. أمَّا هؤلاء فيكذبون وهم عالمون بانهم كاذبون. ولقد جاءني ذات يومٍ أحد أبنائي الكثيرِين؛ جاءني يشكو مما رآه، وكان اليأس قد دب في نفسه أو كاد، فقال: إن بعض من يخلصون للعمل لا يصعدون، وإن بعض من يُصعِّدونهم هم الذين لا يُخلصون، فماذا هو صانع؟ أجبته: اصنع ما يصنعه الصامتون المُنتجون؛ فمن حسن الحظ أنهم هم الكثرة. وأمَّا الصائتون الفارغون فلقد شاء لنا فضل الله أن يكونوا قلةً تتوهَّج ثُمَّ تخبو في أقلَّ من لَمْح البصر.