وكذلك أخلاق المدينة
أخلاق القرية التي ندعو لها، لنجعل منها نموذجًا لسلوكنا، ضروريةٌ لحياتنا، ولكنها وحدها لا تكفي؛ إذ لا بُدَّ أن تُكمِلها أخلاق المدينة.
أخلاق القرية هي الأخلاق التي أفرزتها الحضارة الزراعية الريفية؛ فبمقدار ما نريد المحافظة على شيء من هذه الحضارة، تكون الحكمة في المحافظة على أخلاقها، لكنَّ هنالك حضارةً علميةً صناعيةً جديدةً نَشأَت، واتخَذَت المدينة موطنًا لها، فنَشأَت تبعًا لذلك مجموعةٌ خلقيةٌ جديدة. ومُحالٌ على من أراد الدخول في العصر أن يُحقِّق ذلك وأن يتنكر في الوقت نفسه لما تستلزمه حضارة الصناعة من قيم، وإلَّا وقع في تناقضٍ يُمزِّقه بغير جدوى.
بل إن الاتجاه العام الذي يسود عصرنا، هو تحويل القرية إلى مدينة (بالمعنى الحضاري) لا تحويل المدينة إلى قرية؛ فالأقرب إلى التصوُّر في يومنا هو أن يتحول الفلاح إلى «عاملٍ زراعي» — بكل ما تحمله كلمة «عامل» الآن من حقوقٍ في الأجور والتأمينات والانتماء النقابي وغير ذلك — فذلك أقرب إلى التصوُّر من تحويل عامل المصنع إلى حالة الفلاح كما كانت. لقد جاءت قيم الحضارة الصناعية لتبقى وتسود وليس لنا عن ذلك محيص. إنه ليُقال إن قَتْل قابيل لأخيه هابيل هو رمزٌ لزوال حضارة الصيد، وهي أول صورةٍ حضاريةٍ في التاريخ، لتحل حضارة الراعي محلها. ولقد حدث بعد ذلك قتلٌ آخر، حين أسلمت بداوة الرعاة نفسها إلى فلاحة الأرض. ثُمَّ تلا ذلك قتلٌ ثالثٌ — ما يزال في سبيله إلى إنجاز مهمته — وكان ذلك حين أعلنت الصناعة الحديثة قدومها لتأخذ مكان الزراعة. وليس معنى ذلك أن تختفي الزراعة من الوجود، بل معناه أن تتصنع باستخدام الآلات، ليصبح الحقل وكأنه مصنعٌ ينتج الزرع. ولم تكن هذه التحوُّلات كلها مجرد اختلافٍ في شواغل الناس، بل كان تحوُّلًا كذلك في أُسُس الأخلاق، لتكون لكل مرحلةٍ أخلاقها.
إن من مزالق الخطأ عند الإنسان ألا يُراعي التغير الذي يُصيب معنى لفظة مع بقاء اللفظة على حالها. فإذا قلنا — مثلًا — إن من أخلاق القرية «التعاون» بين أفرادها، كان واجبًا علينا كذلك أن نَتذكَّر بأن «التعاون» ركنٌ من أركان الحضارة الصناعية كذلك، ولكن بعد أن تُنظَّم فكرته تنظيمًا بحمله من العلوم. وهل كان يغنينا أن نُبقي التعاون على صورته القروية العشوائية التي إن تناوَلَت بعض جوانب الحياة الاجتماعية كالأفراح والمآتم، فقد فاتها أهم الجوانب التي تمس عملية الزراعة نفسها؟
أبناء القرية في تَمسُّكِهم بأخلاق الريف الزراعي، يَعُدُّون أنفسهم أُسرةً واحدةً أو كالأسرة الواحدة، ومن هنا كان مصدر صلابتهم، لكنه من هنا أيضًا هو مصدر التخلُّف الحضاري في بعض صوره؛ لأن ذلك الشعور الأُسري هو في الأساس مصدر «المحسوبية»؛ فيكفي صاحب الحكم أن يعلم أن بينه وبين فلانٍ تلك العلاقة الوثيقة، ليجعله محسوبًا عليه، مما يُلزمه إلزامًا خُلقيًّا أن يسانده ولو بغير حق، وهي مساندة غالبًا ما يجيء ثمنها وهو أن يدين المحسوب لولي نعمته بالولاء، وهكذا ينسل المعنى الأوَّل نتائجه الضارة، إذا قيست بمقاييس الحضارة القائمة.
العلاقة بين أفراد القرية قائمةٌ على ما تقتضيه روابط الدم — أعني روابط القُربى — فكثيرًا ما يكون ذلك على حساب المصلحة القومية التي تُجاوز القرية وأبناءها. ولقد جاءت حضارة العصر بنوعٍ جديدٍ من التجمعات البشرية، هو هذا الذي نراه عندما يجتمع ألوف العمال في مصنعٍ واحد، بل ويسكنون عادةً في حيٍّ واحد، مما أدى بالضرورة إلى علاقةٍ اجتماعيةٍ من نوع جديد، هي العلاقة التي تمثَّل في النقابات. وسرعان ما يصبح الهدف المشترك — لا خدمة أُسرةٍ بعينها — بل خدمة حرفةٍ صناعيةٍ معينة، وخدمة القائمِين بها. وهنا تتغير معاني طائفةٍ كبيرةٍ من الألفاظ الخُلقية، كالعدل والكرامة والتعاون … إلخ.
ليس في أخلاق القرية مكانٌ لدقة الزمن باعتبارها فضيلة؛ لأن حضارة الزراعة لم تكن تقتضيها؛ فأدق ما تعرفه من ذلك أن يُقال: صبح وضحى وعصر ومغرب وليل؛ ولذلك نُلاحظ في ابن القرية ضيقًا إذا طالَبتَه بتوقيتٍ يلتزم الساعة والدقيقة. فإذا عرفنا أن دقة الزمن هي من الركائز الأساسية في الحضارة الصناعية القائمة، عَلِمنا أن أخلاق القرية لم تعُد تُسعِف — في هذا الجانب — من أراد المشاركة في حضارة عصره.
الدعوة إلى أخلاق القرية فيها رومانسيةٌ تُشبِع الخيال، لكننا ونحن ندعو لها، فلنتذكر حدودها وقصورها بالنسبة إلى هذا الزمان وحضارته.