منطق معكوس
إذا أردنا تلخيص المهمة المطروحة أمام لجنة المنابر، قلنا إنها البحث عن أفضل الطرق التي يتم بها اختلاف الرأي السياسي، أو — بعبارةٍ مُوجَزةٍ دالَّة — هي أن يقول أعضاء اللجنة بعضهم لبعض: تعالوا نتفق على كيف نختلف!
لكن اختلاف الرأي لا يمكن حصره قبل وقوعه؛ لأنه اختلافٌ وثيق الصلة بالمشكلة المطروحة للحل وطبيعتها؛ فقد تكون المشكلة الطارئة مما يتفرع عن التطبيق الاشتراكي، وهنا يجيء اختلاف الرأي بين تطرُّف واعتدال، أو قد تكون المشكلة مما يتصل بالاتجاه العام في السياسة الخارجية، فيجيء اختلاف الرأي بين يمينٍ ويسار، أو قد تكون خاصةً بتنظيم الأسرة أو بقانون الأحوال الشخصية، فيجيء اختلاف الرأي بين جمودٍ وتغير … وهكذا؛ فليست المسألة مرتبطةً في الأساس بأنواع العمل التي تؤديها الفئات المختلفة، بقَدْر ما هي مرتبطة بالطريقة التي يتجه نحوها الرأي في حل مشكلة بعينها، نشأت فعلًا، ويتطلب الحل فعلًا. فإذا كان الفلاحون، أو العمال — مثلًا — على رأيٍ واحدٍ متجانسٍ في طرائق الحل، فليس هناك ما يمنع أن يشترك معهم في الرأي غيرهم من سائر الفئات؛ بدليل أن حزب العمال في بريطانيا، فيه أعضاء لم يخرجوا من صفوف العمال، ولكنهم يشاركونهم وجهة النظر.
كان المنطق المستقيم يقتضي أن تُرجأ هذه اللجنة أو ما يشبهها، فتنعقد بعد ظهور المشكلات لا قبل ظهورها؛ فنحن لا نعلم مُقدَّمًا أنواع المشكلات القومية التي ستنشأ لنا على الطريق، والتي إذا ما نَشأَت فربما استدعت ضروبًا من اختلاف الرأي لا سبيل إلى التنبُّؤ بها قبل وقوعها؛ وبالتالي فلا سبيل إلى تحديد «المنابر» المطلوبة. وإذا أردت مثلًا قريبًا، فخذ مشكلة المنابر نفسها؛ فمن ذا كان يتوقع — عندما أُطلِقَت هذه الكلمة لأول مرة — كل هذا الخلاف في وجهات النظر؟
فإذا قيل: إن الاختلاف الذي نعنيه ليكون أساسًا لإقامة المنابر، هو اختلاف «المبادئ الأساسية» نفسها، لا الاختلاف على حلول المشكلات التفصيلية التي تظهر آنًا وتختفي آنًا، كان في هذا القول ما ينقض الزعم الذي لا نمل من تكراره كل يوم، وهو أننا نعيش تحت مظلَّة التحالُف بين الفئات. وماذا يعني هذا التحالُف المزعوم إذا لم يكن يعني الاتفاق على المبادئ الأساسية المُشار إليها، حتى وإن تعدَّدَت بعد ذلك آراء المواطنِين في طريقة التطبيق — وأقول «التحالف المزعوم» — لأن لي رأيًا في فلسفة التحالُف هذه، ليس مكانه هنا، ولا زمان التعبير عنه هو الآن، حتى لا نزيد من بلبلة الفكر، ولدينا ولدينا منها الآن ما يكفينا.
إننا حين نجلس الآن لنرسم تصميمًا نظريًّا مُسبقًا لتشكُّل الحياة السياسية، كُنَّا كمن يخطط تصميمًا لعمارة سكنية، دون أن يكون لديه العلم بظروف السكان، أو كُنَّا كمن يُعِد القفص للصيد، دون أن تكون لديه الفكرة السابقة عن نوع صيده؛ فربما جاء فيلًا لا يسع له القفص، أو جاء فأرًا غيرَ جدير بالقفص.
إن الشكل الذي يُقام ليتناسب مع اختلاف الآراء لا بُدَّ أن «يُفصَّل» على الأجسام القائمة بالفعل، وليس هو كالملابس الجاهزة نصنعها مُقدَّمًا قبل أن نتبين أحجام الأجسام التي ينتظر أن ترتديها. ومن هنا رأينا الأحزاب في كل بلاد الدنيا التي يُحسب حسابها، وفي جميع الحالات — حتى حالات الحزب الواحد — تنشأ استجابةً لمواقفَ فعليةٍ حَدثَت، واقتضت أن يُقام لها شكلٌ سياسيٌّ يناسبها؛ أي إن الشكل السياسي ينشأ «بعد» الموقف الفعلي لا «قبله». حتى اتحادنا الاشتراكي نفسه نشأ استجابةً لتطوُّرٍ مُعيَّن في مجرى الحوادث. وإلَّا فلماذا تحولنا من «هيئة التحرير» إلى «الاتحاد القومي» ثُمَّ إلى «الاتحاد الاشتراكي العربي»، إلا أن يكون هذا التحوُّل نتيجةً لما حدث لا مقدمةً سابقةً عليه؟ أمَّا بعد هذا كله، فإني أقول إن مشكلة المنابر هذه إنما هي مشكلة خلقناها نحن، هروبًا من الإعلان الصريح بقيام الأحزاب، ثُمَّ توهمنا أنها مشكلةٌ حقيقيةٌ تتحدانا لحلها، كما كان يحدث لنا ونحن صغار حين كُنَّا نعقد قطعةً من خيط، ثُمَّ نتحدى أنفسنا بفكها دون أن نقطع الخيط. وهكذا فعلنا الآن: قلنا «منابر» داخل الاتحاد الاشتراكي، فلما تَبيَّن ما في الفكرة من غموض وتعقيد، شكَّلنا لجنةً لتلتمس طريقةً للخلاص، مع أن مواجهة الأمر مواجهةً صريحةً أمينةً تنتهي بنا إلى أحد أمرَين لا ثالث لهما:
فإمَّا نظامٌ ذو رأي واحد، كالنظام القائم الآن، دون أن نضحك على أنفسنا بوهم المنابر داخل هذا النظام، وإمَّا أحزاب تنشأ نابغة من تكتلات الرأي الفعلية التي لا بُدَّ أن تحدث بعد أن يتبلور الاختلاف الناس في طريقة معالجتهم للمشكلات التي تنشأ على الطريق حينًا بعد حين.