الشيطان الأخرس
الشيطان الأخرس — كما قيل — هو الساكت عن الحق، أو عما يظنه أمام ضميره أنه الحق. إنه لا يكفي أن تكون صادقًا في كل ما تقوله، بل لا بُدَّ أن يُضاف إلى ذلك واجبٌ خلقيٌّ آخر، وهو أن تقول كل ما تعرف أنه الحق، لا سيَّما إذا كان هذا الحق مما يُؤثِّر في حياة الناس من جوانبها الحيوية الهامَّة.
وإني لأُشهد الله — أمام ربي وأمام ضميري وأمام الوطن — بأنني أعاني من قلقٍ يستبد بعقلي وبقلبي، فلا يترك لي مهربًا ولا مخرجًا، وهو قلقٌ من موجةٍ تطغى على حياتنا الفكرية والشعورية طغيانًا يزداد كل يوم قوةً وصرامةً، حتى لأخشى أن أقول عنه إنه طغيانٌ أوشك أن يبلُغ حد الإرهاب الفكري الذي لا يدع مجال الحرية في التعبير عن الرأي مفتوحًا للجميع على حدٍّ سواء؛ فهو مفتوح على جميع مصاريعه لأصحاب جانبٍ واحدٍ من جوانب القول مغلقٌ (بالضبَّة والمِفتاح) أمام الجانب الآخر أو الجوانب الأخرى أو قل إنه يكاد.
وأمَّا المجال الذي أعنيه فهو الخاص بالعودة إلى السلف في رسم الطريق الذي يُراد لنا أن نسلُكه في أكثرِ جوانبِ حياتنا حيويةً وأهمية.
- (١)
ففي موضع من الصحيفة قيل إن النية متجهةٌ إلى إدخال عقوبة قطع الأيدي والأرجل، وتحريم شرب الخمر أو المشاركة في صُنعها أو بيعها، وتطبيق حد الإسلام وهو الجَلْد على المُسلمِين وحدهم، وإنه قد تقرَّر الاستعانة بالتشريعات القائمة في السعودية … وبهذه المناسبة أذكر شيئَين: أحدهما أنني في حديثٍ لي مع المرحوم الشيخ حافظ وهبة الذي كان سفيرًا للسعودية في لندن، سألته مستفسرًا عن قطع الأيدي، من الذي يتولاه؟ هل يتولاه الجراحون في المُستشفيات؟ فضحك وقال: لقد رفض الجراحون أن يتولوا هذا العمل؛ لأن مهنتهم — كما قالوا — تحتم عليهم وصل الأيدي المقطوعة، لا قطع الأيدي الموصولة، وإنما الذين يَتولَّونه هم «الجزارون» (!) — كان هذا الحديث في لندن سنة ١٩٤٦م.
وأمَّا الشيء الثاني الذي أُريد ذكره بهذه المناسبة، فهو دهشةٌ أَذهَلَتني ذات يوم، عندما كنت أقرأ عن الخوارج في صدر الإسلام، وغِلظة أكبادهم إزاء من يظنونه خارجًا على عقيدتهم؛ فأهون شيء عندهم هو القتل. وقد كان ذلك منهم على المُسلمِين وحدهم. ولقد حدث لواصل بن عطاء — بكل مكانته الدينية والفكرية — أن مرَّ هو ونفرٌ من أصحابه في أرضٍ كان يعلم أن للخوارج فيها الكلمة العليا، فلما اعترضهم هؤلاء الخوارج في بعض الطريق، وخشي واصل أن يَعُدُّوه هو وأصحابه غير مسايرِين لأوامر الدين كما فهموها أنكر عليهم حقيقة نفسه وزعم لهم أنه من أهل الذمة، فخَلَّوا سيله، بل وأوصلوه هو وجماعته إلى الحدود سالمِين، عملًا بما أوصى به الدين لغير المُسلمِين، وماذا كان «واصل» ليصنع غير هذا في وجه المغالاة وضيق الأفق؟
- (٢)
وفي موضعٍ آخرَ من الصحيفة، نُشِرَت كلمة الأستاذ في إحدى كليات الأزهر يرد بها على فضيلة شيخ الأزهر فيما يخص غناء المرأة المسلمة، أهو حلالٌ أم حرام. ولقد استهل الأستاذ كلمته بهذه العبارة: «كانت المرأة وما زالت سهمًا من سهام إبليس …» ولا بُدَّ أن تكون لهذا الأستاذ أم، وربما كانت له كذلك بناتٌ وأخوات؟ فبماذا يا ترى يجيب لو سألته: إذا كانت المرأة سهمًا أراد إبليس أن يرمي به الرجل ليُضلِّله، أفليس الرجل سهمًا من سهام إبليس أراد أن يرمي به المرأة ليضللها؟ وإذا كان كذلك، أفيكون البشر جميعًا على هذه الصورة الشيطانية الرهيبة؟ ألا نتقي الله في كرامة الإنسان، إذا لم يكن بنا رغبةٌ في أن نتقيه في القيم الحضارية كلها؟
- (٣)
وفي موضعٍ ثالثٍ من الصحيفة نفسها، جاء في تقريرٍ صحفيٍّ يُصوِّر به كاتبه ما حدث في مؤتمر الاقتصاد الإسلامي الذي انعقد في مكة، أن أحد أساتذة الاقتصاد قال للمُؤتمِرِين إن إقامة اقتصادٍ إسلاميٍّ لا تكفيها الدراية بالفقه الديني وحده، بل لا بُدَّ كذلك من الإلمام بعلم الاقتصاد، فانفعل أستاذ من أئمة الدين — وهو مصري — قائلًا: إن رجال الشريعة قادرون على أن يقولوا كلمتهم في كل شيء … والعهدة في هذه العبارة على التقرير المنشور. وظني هو أن الأمر إذا بلغ بنا هذا الحد، فلا يكفي أن نقول إن السيل قد أغرق الرُّبى؛ لأنه بذلك يكون قد أغرق مع الروابي قمم الجبال العالية. ولو كان الأمر كما قال القائل لوجب منذ الغد أن نُغلِق الجامعات جميعًا ومراكز البحث، وغيرها مما يُريد أن يبلغ شيئًا من الحق، لا نُبقي إلا على كلية الشريعة لأنها تُعلِّمنا «كل شيء».