فقراء الأرض
لم أزعم يومًا لنفسي ولا زعمتُ للناس أن لي في مجال السياسة بصيرةً تعلو على بصائر العامة، لكني أقرأ ما يكتبه محترفو السياسة، فأجدني مطمئنًّا هنا أو قلقًا هناك اطمئنانًا وقلقًا يَصدُران عن مجرد الشعور، ولا يَصدُران عن التعليلات العقلية الصارمة، فكأنني أُدرك الحقائق السياسية بالوجدان لا بمنطق العقل. ومن يدري؟ فلعل ميدان السياسة كلها من أساسه ليس قائمًا على البرهان العقلي، بقَدْر ما هو قائم على استثارة المشاعر، وإلَّا فلماذا نسمع الرأي ونقيضه في آنٍ واحد؟
على أني بمثل هذا الإدراك الوجداني في دنيا السياسة، أَدرَكتُ ذات يوم — وكان ذلك منذ أكثر من ربع قرن — وعبَّرتُ عما أدركته في مقالٍ كان عنوانه «شمال وجنوب»؛ أدركت أن رجال الفكر في أوروبا وأمريكا — أو رجال السياسة، لست أدري أيهما — قد شغلوا أنفسهم وشغلونا معهم أكثر مما كان ينبغي بقسمة العالم إلى شرق وغرب، بالمعنى القديم لهاتين الكلمتَين؛ أي بالمعنى الذي يجعل أوروبا وأمريكا «غربًا»، وأفريقيا وآسيا «شرقًا» (إذ إن لهاتَين الكلمتَين الآن معنًى جديدًا، يجعل معنى «الغرب» أوروبا الغربية وأمريكا، ومعنى «الشرق» الروسيا وما يجري في فلكها)؛ أقول إنهم شغلوا أنفسهم وشغلونا معهم بقسمة العالم إلى شرق وغرب، وسكتوا وأسكتونا معهم عن قسمةٍ أهم وأخطر، وهي القسمة إلى شمال وجنوب. فماذا تعني القسمة الأولى أكثر من الاختلاف في فلسفة الحياة وطرائق التفكير؟ وأمَّا القسمة الثانية الخطيرة، أعني قسمة العالم إلى شمال وجنوب، فتمَسُّ عصب الحياة؛ ففي الشمال شِبَع وفي الجنوب جوع، وفي الشمال غِنًى وفي الجنوب فقر، وفي الشمال علم وفي الجنوب جهل، وفي الشمال قوة وفي الجنوب ضعف، وفي الشمال تقدُّم وفي الجنوب تخلُّف.
فقراء أهل الأرض هم أهل الجنوب؛ أمريكا الجنوبية، وأفريقيا، وجنوبي آسيا، ولا ينفي ذلك أن تقع الثروة البترولية الطارئة في هذه الرقعة من العالم؛ لأنها ثروة استخرجها لهم واستثمرها لهم أهل الشمال؛ ولِأنَّها على كل حال ثروة إلى حين. وفقراء الأرض هم شعوب «العالم الثالث» — على وجه الإجمال — التي ظَفِرَت باستقلالها السياسي من قبضة الشمال منذ عهدٍ قريب. أفلا يتبادر إلى العقل سؤال: ماذا في الشمال أكسبه قوته وثراءه، وماذا في الجنوب أنزل به الضعف والفقر أو لا تكاد تطرح على نفسك السؤال حتى تجد جوابه: إنه العلم والصناعة في الشمال، وإنها الزراعة التقليدية في الجنوب، وهو جوابٌ كافٍ وحده لرسم الخُطة واتجاه السير، فإذا شئنا لحاقًا كان المفتاح هو العلم والصناعة.
ومن هنا رأينا الشعوب التي ظفِرَت باستقلالها السياسي، قد سارَعَت إلى انتهاج سياسة التصنيع وسياسة التوسع في تدريس العلوم، وهذا هو ما فعلناه نحن، لكن الذي لم نفعله بعدُ، هو أننا لم نُلحِق بالعلم والتصنيع ما لا بُدَّ أن يلحق بهما من قيمٍ جديدة، فأصبح العلم والصناعة عندنا واجهةً تُخفي وراءها قلوبًا تُفكِّر بالعلم ولا تؤمن بالتصنيع؛ فالصناعة الحديثة لا تختلف عن الزراعة التقليدية فقط في كونها تُصنِّع الحديد والصلب والسيارات والثلاجات، على حين أن الزراعة تبذر البذور وتجمع الحصاد، لا بل إن هذا الفَرْق نفسه يستلزم تغييرًا عميقًا في العادات ووجهات النظر؛ فالإنتاج الصناعي يتطلب لم نألفها، ويتطلب حسمًا وحزمًا لم نتعودهما، ويتطلب نوعًا من الإدارة لا نستريح له، وموضوعية في الحساب لم نُنشَّأ على مثلها. كان فتحي زغلول قد ترجم لنا في أوائل القرن كتابًا عنوانه «سر تقدم الإنجليز السكسونيِّين» فالتقدم الحضاري عندئذٍ كان «سرًّا» غير معلوم الأسباب حتى يكشفه كاتبٌ كمؤلف الكتاب المذكور، انكشف عنه الغطاء؛ فالتقدُّم الحضاري هو علم وصناعة، وكل العوامل ما عدا هذَين العاملَين، قد تُعطينا «حضارةً» من نوعٍ ما، لكنها لن تكون هي حضارة القرن العشرين.
أهي مصادفة — إذن — أن ترتفع أصوات المُؤلِّفين حينًا بعد حين في أوروبا وأمريكا، داعية شعوب العالم الثالث أن يحافظوا على حياتهم الزراعية ليحفظوا كِيانهم؟ وكان آخر هذه الأصوات التي سَمِعتُها، هو صوت لمُؤلِّفٍ نشر كتابًا لِتوِّه، عنوانه «فقراء الأرض» ومنه أَخذتُ هذا العنوان.