العمل الفارغ
أنا مدين في هذا العنوان للأستاذ الدكتور محمد عصام فكري، أستاذ الأمراض الباطنية بجامعة الإسكندرية؛ فلقد أرسل إليَّ تعليقًا على مقالة نشَرتُها منذ قريب، بعنوان «ساعات الفراغ»، قلت فيها إن من سِمات عصرنا أنه قد جاوَزَ المرحلة التي كان الناس فيها يَفصِلون فصلًا حادًّا بين وقت العمل ووقت الفراغ؛ بمعنى أن هذا العصر قد خلق لنا كيانًا ثالثًا يجمع بين القسمَين اللذَين قد يبدوان وكأنهما ضِدَّان لا يلتقيان، وذلك بأن خلق لنا ما أَسميتُه في المقالة المذكورة باسم «الفراغ العامل»؛ أي الفراغ الذي لا يُبدِّده صاحبه بلا جدوى، بل يعمل فيه عملًا ينفعه وينفع الناس. ويدخل في هذا الباب ضروب الخدمات الاجتماعية غير المأجورة، التي نراها عند القوم ونعجب لسرعة زيادتها وكثرة تَنوُّعها، فأرسل إليَّ الدكتور عصام فكري ليُعبِّر عن حسرته للفارق البعيد في ذلك بينهم وبيننا؛ فبينما هم يَملئون الفراغ بالعمل مُتطوِّعِين، ترانا نحن نملأ ساعات العمل بالفراغ مُتهرِّبِين؟ فهناك فراغٌ عامل، وهنا عملٌ فارغ.
وربما ازدادت صورتنا في هذا الأمر بشاعة، إذا ما ألقينا نظرةً إلى طريق التطوُّر الحضاري: كيف كان؟ ففي المراحل البدائية لم يكن الناس يعرفون هذه التفرقة بين عمل وفراغ، إلى الدرجة التي تجعل «للعمل» كلمةً خاصةً في لغات القبائل المُتخلِّفة، كما ينبئنا علماء الأجناس البشرية. وفيم يجعلون للعمل كلمةً خاصةً به، وهم لا يَقسِمون حياتهم هذه القسمة التي ابتَكرَتها أنماطُ حضاريةٌ أخرى لا شأن لهم بها؟ فليس عندهم هذا التوالي بين ساعاتٍ للعمل تعقبها ساعاتٌ للراحة بعد عناء؛ لأن هذه وتلك متداخلة في حياةٍ عضويةٍ واحدة.
ثُمَّ جاءت مرحلةٌ أكثر تنظيمًا، ففَصلَت بين الفترتَين لتكون فترة العمل للعمل وفترة الفراغ للفراغ، وهي الصورة التي ما زالت عالقةً بأذهاننا إلى حدٍّ كبير. غير أن ظروف الحياة الصناعية في عصرنا — كما قُلتُ — قد زادت من ساعات الفراغ زيادةً حَملَت الناس على أن يُفكِّروا في ملئها بصنفٍ آخر من العمل، يغلب أن يكون إشباعًا لهواية أو أن يكون خدمةً للآخرين.
وأمَّا نحن فقد زاد فراغنا أيضًا، لا لأننا أدخلنا الصناعة إلى الدرجة التي تؤدي إلى هذه النتيجة، بل زاد فراغنا لسببٍ آخر، هو زيادة عدد العاملِين عن القَدْر المطلوب لأداء العمل زيادةً رهيبة، حتى لقد عَلِمتُ — مثلًا — أن إحدى مجلاتنا التي تُصدِرها الدولة، بها سبعون مُحرِّرًا، مع أنه كان يكفيها اثنان أو ثلاثة، فكانت النتيجة هي أن معظم هؤلاء السبعين لا تظهر وجوههم إلا يوم صرف المُرتَّبات؛ لأنهم حتى إذا واظبوا على الحضور، فلن يجدوا أماكن لجلوسهم مجرَّد جلوس، فكان أن دمجنا نحن الفراغ بالعمل على نحو ما دَمجَت الشعوب المتقدمة، لكن الفرق هو أن هذه الشعوب تحاول أن تجعل الدمج عملًا كله. وأمَّا نحن فنحاول أن نجعل الدمج فراغًا كله. على أني أعود فأُكرِّر ما ذَكرتُه في موضعٍ آخر، من أن هذه «البلطجة» لم تُصِب إلى نسبةً قليلة من الشعب، هي — لسوء الحظ — مُتركِّزة في «المُتعلمِين» الذين يُوزِّعونهم بالألوف هنا وهناك، دون أن يكون لهم عملٌ يُؤدُّونه، وإذا وجدوه حاولوا التملُّص منه.
ليست المأساة اقتصادية فحسب؛ فأنا أترك ذلك لرجال الاقتصاد، لكن للمأساة جانبًا آخر يعنيني في المقام الأوَّل، وهو ما أصاب «أخلاقيات» العمل من فسادٍ يكاد يُودِي بها؛ فالأصل في الإنسان المُتحضِّر هو أن يعمل مزهوًّا بأنه يعمل، لكننا نريد أن نجعل الأصل هو الفِرار من العمل ما دامت الرواتب مضمونة في أوقاتها. إنه إذا كان العمل وأسلوب أدائه وطريقة النظر إليه، هو بمثابة المنظار الذي تنظر خلاله لترى روح الشعب على حقيقتها؛ أهو شعبٌ جادٌّ أم هازل؟ أهو شعبٌ متفائل أم يائس؟ أهو شعبٌ مسئولٌ أم مستهتر؟ أهو شعب يحترم نفسه أم هانت عليه تلك النفس؟ أقول إنه إذا كان العمل وأسلوب أدائه وطريقة النظر إليه، هو بمثابة الترجمة الذاتية للشعب، فلَستُ أدري ماذا يكون حكمنا على أنفسنا؟
لقد كان «برنولد برخت» هو الذي سأل قائلًا: في العشية التي فرغ معها العمل في إقامة سور الصين العظيم، أين ذهب البناءون؟! وله حق في السؤال؛ لأن هذا السور الهائل، لا بُدَّ أن يستوعب لبنائه ألوف الألوف من العاملِين، فأين يذهب هؤلاء في اللحظة التي يتم عندها العمل؟ وكان أن أجاب أحد الأذكياء عن السؤال بقوله: إنهم يَبدَءون في ترميم الأجزاء الأُولى من السور، ما دامت فترةٌ طويلةٌ قد انسَلخَت منذ بُدئ ببنائها؛ فأخلاقيات العمل تقضي على العاملِين بأن يُنشئوا، وألا يَكفُّوا عن صيانة ما أَنشَئوه، ذلك إذا بَقِيَت للعمل أخلاق!