الفنون في مناهج الدراسة
عندما تجتمع جماعةٌ مِنَّا لتخطيط مناهج الدراسة في مراحل التعليم المختلفة، فهي بمثابة من جلس ليُفكِّر في الصورة التي يُراد للجيل الآتي أن يُصاغ في إطارها؛ فمن شأن الجيل الحاضر دائمًا أن يأخذه القلق بالنسبة إلى الجيل الذي يليه، وليس في ذلك غرابة؛ إذ إن الجيل الحاضر هو الوالد، والجيل الآتي هو الولد، فأين هو الوالد الذي لا يُؤرِّقه مصير ولده؟!
والحياة تيَّارها دافق، يأتي مُوجهًا في كل جيل بشيءٍ جديد، فإذا أراد الناس لأنفسهم أن يكون لهم فاعلية الحياة وتجدُّدها، تحتم عليهم في كل مرحلةٍ من مراحل الطريق، أن يُحقِّقوا لأبنائهم شيئَين في وقتٍ واحد؛ أولهما أن يَنشأ هؤلاء الأبناء على جديد عصرهم، والثاني هو أن يكونوا على وعيٍ بماضيهم الذي جاء لهم من أصلابه هذا الجديد. وإن أحد هذَين الوجهَين لا يكفي وحده؛ لأن انحصار الأبناء في عصرهم فقط يجعلهم كالذي يقرأ القصة من فصلها الأخير، وانحصارهم في عصور آبائهم فقط، يجعلهم كالذي وقف عند الفصول الأولى من القصة، ولم يُتابِعها إلى ختامها.
كل ذلك معروفٌ ولا جديد فيه، ولكني أردتُ هنا الإشارة إلى نقطةٍ يُخيَّل إليَّ أن الأنظار لم تتجه إليها بالقدر الكافي، برغم أهميتها وخطورتها في تحقيق الوجهَين اللذَين ذكرناهما، وتلك هي أننا ونحن نخطط لمناهج الدراسة، نتجه بثقلنا نحو جانب «المعلومات» التي يُحصِّلها الطالب متمثلةً في مواد الدراسة المختلفة، ونُهمِل — أو نكاد نهمل — جانب «الفنون» مع أننا إذا ما أغفلنا الفنون فقد أغفلنا التربية الوجدانية كلها، وكانت الصورة التي نرسمها للجيل التالي ناقصةً إن لم تكن شائهةً كذلك.
إننا نكاد نقتصر في جانب الفنون على الفن «الأدبي» من شعر ونثر، وقد نُضيف أحيانًا مادة «الرسم»، لكنني في الحقيقة أريد شيئًا آخر؛ فتحصيل «المعلومات» المُتمثِّلة في مختلف المواد الدراسية، يدور معظمه على وَصْل الطالب بعصره الراهن من ناحيته العقلية وحدها. وإلى هنا لا اعتراض لنا على شيء؛ لأن دراسة علوم العصر أَمرٌ محتوم، بل ربما كان أمرًا له الأسبقية على كل ما عداه، إذا كان في جوانبِ التربية المتكاملة أَسبقيَّات.
لكن ما نعترض به هو — أوَّلًا — أن العصر ليس علمًا كله، بل هو علم وفن، ومُحالٌ على الإنسان أن يتنفس هواء زمنه بتحصيل علومه دون أن يتذوق فنونه، تذوُّقًا لا يُشترط فيه قبول تلك الفنون بحذافيرها؛ لأن رفض الرافض لا بُدَّ أن يسبقه دخوله في رحاب تلك الفنون على أساس من التربية الفنية المُنظَّمة في المدارس والجامعات. ولقد شَهِدتُ من أساتذة جامعاتنا — ودع عنك طلابها — من لا يكاد يعلم حرفًا من ألف باء الفنون في عصرنا؛ موسيقى أو تصويرًا أو شعرًا أو نثرًا. ولست أدري كيف يجوز لأحد أن يدَّعي بأنه مسايرٌ لعصره، وهو لا يُميِّز في فنون ذلك العصر رأسها من ذيلها.
على أن النقطة الأهم، هي أننا بحكم موقفنا الحضاري، نُواجه مشكلة الجمع بين الماضي والحاضر؛ فلو كُنَّا أمةً بغير حضارةٍ سابقة، لأخذنا حضارة العصر بعلومها وفنونها كما هَبطَت علينا، لكننا أصحاب تاريخ، فكيف نَصُب هذا التاريخ في قلوب شبابنا ليصبح الماضي حيًّا في عروقه؟ إننا نلجأ في هذا — أحيانًا — إلى إدخال شيء من «علوم» آبائنا في مناهج الدراسة، ولكن «علوم» الآباء لا تُحقِّق لشبابنا ما نريده لهم؛ فلو اكتفينا — مثلًا — بأن نعرض على هؤلاء الشباب علم الكيمياء كما هو عند جابر بن حيان، أو علم الطب كما هو عند ابن سينا، لَتعرَّضوا لخطر المقارنة بين علمٍ قديمٍ وعلمٍ جديد. وعندئذٍ لا يشفع للعلم القديم أن يُقال للدارسِين إن العالم الفلاني كان أول من اكتشف كذا أو أول من اخترع كَيْت.
لا، ليس الإنتاج «العلمي» للأقدمِين هو أفضل الطرق لربط شبابنا بحضارة آبائهم، ولكنه الإنتاج «الفني» الذي يُحقِّق هذه الغاية على أكمل وجهٍ مستطاع. وعندما أقول ذلك، فلا يكفيني أن يُوضع للدارسِين كتابٌ في تاريخ هذا الفن أو ذاك، ليحفظه الطلاب كما يحفظون سواه. ولو فعلنا ذلك واكتفينا به، لما كان هناك فَرقٌ بين فن وعلم؛ لأن كلًّا منهما عند الطالب قد تحول إلى «كتاب» وإنما المراد هو المُواجَهة المباشرة من الطالب للأثر الفني أيًّا كان نوعه، ثُمَّ تدريبه على الدخول فيه لِيدمج نفسه بالقيم المُتجسِّدة فيه، فيعيشها كما عاشها مُبدِع ذلك الأثر عند أول خلقة. وقد نستعيض عن الآيات الفنية في الزخرفة وغيرها، بصورةٍ مُتقَنةٍ تكون موضع الدراسة وهي الفكرة التي كانت عند «مالرو» وهو يضع كتابه «متحف في صور».
نعم، إننا نهيئ المواجهة المباشرة بين طلابنا وفنون الآباء، مُقتصرِين في ذلك على ما يدرسونه من نماذجَ أدبيةٍ هنا وهناك. ولو أُحسِنَت دراسة تلك النماذج لنَعِمنا بشيء من الطمأنينة، لكننا نعرف أن هذه الدراسة الأدبية تنتهي بالأكثرية العظمى من الدارسين إلى «كراهية» ذلك التراث الفني، وبهذا ينقلب الأمر علينا؛ فما أردناه أن يكون جزءًا من حياتنا النابضة، يُصبِح مدعاةً للسخرية؛ وذلك لأن دراسة الأدب عندنا قلما تدخل بالطالب إلى قلوب مُبدِعِيه، لتأخذهم المشاعر نفسها التي أَخذَت هؤلاء المُبدعِين حين أبدعوا. مع أننا لو أدخلنا الدارس في صميم الفن الذي يواجهه، لعاش ماضيه في أسمى لحظاته، وبذلك يتحقق لنا الوصل المنشود بيننا وبين أسلافنا.