حديقة الهانم
المواثيق والبيانات وحدها لا تصنع مجتمعًا اشتراكيًّا، حتى لو بَلغَت صفحاتها عشرات الألوف، وحتى لو وُضِعَت كلمة «الاشتراكية» في كل صفحة مائة مرة، وإنما الذي يصنع المجتمع الاشتراكي هو أن ينزع الناس من صدورهم ضميرًا ليضعوا مكانه ضميرًا جديدًا يُملِي عليهم من بواطن أنفسهم طرائق السلوك في المجتمع الجديد. إن البطاقة الملصقة على زجاجة الدواء لم تُلصَق في مكانها ذاك ليظل المريض يُردِّد كلماتها، بل هي هناك لإرشاده إلى الطريقة التي يشرب بها الدواء. ولو اكتفى المريض بقراءة ألفاظ البطاقة ألف مرة كل يوم، لما فعل الدواء فعله المطلوب؛ لأنه إذا كان تَكرار الكلمات ذا شأنٍ في عهود السحر، فإنه حين انقَضَت تلك العهود انقضى معها سحر الكلمات.
والذي أزعمه هنا هو أن الاشتراكية ما زالت واقفة عند حدود اللفظ، لم تتحول بعدُ إلى سلوكٍ تُمليه الضمائر. وهاك حادثةً حدثت من رجل كان في منصبِ مسئولٍ في حينه، زمانها كان منذ بضع سنين، وكان مكانها مكتبًا من مكاتب الدولة، وأشخاصها رجلين؛ أحدهما قوي النفوذ قليل العلم، والثاني كثير العلم ضعيف النفوذ، الأوَّل كانت شخصيته في ضخامة جثمانه، على غِرار ما كانت قوة شمشون في شعره، وأمَّا الثاني فكان ممن هذَّبهم العلم إلى درجة الوداعة؛ فقد كان يحمل الدكتوراه في علوم الزراعة. وسأشير في هذا الحوار باسم «عنتر» إلى الرجل الأوَّل، وباسم «الدكتور» إلى الرجل الثاني.
ذات صباح دق التليفون في مكتب الدكتور، وكان عنتر هو المتكلم.
ومضت بعد ذلك دقائق، والدكتور يكاد يرتعش من هول المفاجأة، وبعدها ظهر عنتر في بهو المبنى. ودون أن يلتقي الرجلان وجهًا لوجه، أخذ يصيح بصوت يهُزُّ الجدران، مُقسِمًا بالله أن يؤدب هذا المتمرد، ولن تمضي أيام حتى يعلم من هو؟ ومن أنا؟ … وكنا نحن المُشاهدِين السامعِين نعرف أن الفرق بين الرجلَين هو أن أحدهما كان من أهل الثقة، وأن الثاني كان من أهل الخبرة، بكل ما في ذلك من أبعاد.
ولست أعلم منذ ذلك التاريخ — وهو في الحق تاريخٌ بعيد — ماذا استطاع عنتر أن يُنزله بالدكتور من عقابٍ جزاء عصيانه؛ وذلك أني كنت زائرًا عابرًا لا يعنيه أن يتابع الحدث إلى نتائجه الأخيرة.
صحيح أن اشتراكيتنا لم تكن عندئذٍ قد انقضى عليها وقتٌ يُمكِّنها من الرسوخ في أنفس المواطنِين، لكن عشر سنوات مرَّت بعد ذلك، فحدث أن صدر قرارٌ جمهوريٌّ لوزيرٍ سابقٍ أن يُعيَّن أستاذًا بإحدى كليات الجامعة، وأظنه لم يكن قبل ذلك أستاذًا، فكان أوَّل ما لفت أنظارنا أن الوزير السابق لم يعجبه أن يُقدِّم نفسه إلى عميد الكلية التي سيعمل بها؛ لأنه قد أصبح في رأي نفسه أعلى من ذلك قدْرًا، فجعل لقاءه مع رئيس الجامعة، ثُمَّ ما هو إلا أن أصدر رئيس الجامعة أمرًا بأن تُعَد للوزير السابق غرفةٌ خاصة، تُؤثَّث بأثاثٍ جديد، في الوقت الذي كان سائر زملائه من الأساتذة يزدحمون في غرفةٍ واحدة. ولم يلبث الأمر أن بلغ بالأستاذ الوزير، أو الوزير الأستاذ، حَدَّ المأساة أو المهزلة — لست أدري أيهما — حين أرسل سكرتيره الخاص ذات يوم ليُلقِي محاضرته بدلًا منه!
وأذكر أني أدركتُ يومئذٍ شبهًا عجيبًا بين قاعة المحاضرات — وسكرتير الوزير السابق يُلقي فيها المحاضرة نيابة عن سيادته — وبين حديقة الهانم.