جوائز الدولة
جوائز الدولة التي أعنيها، هي تلك التي تُقدِّمها الدولة رعايةً منها للفنون والآداب والعلوم — سواء كانت علومًا اجتماعية أم علومًا في مجال الطبيعة والرياضة — والحق أن الدولة في هذه الرعاية تضطلع بواجبٍ نبيلٍ لست أعرف دولةً أخرى تُؤدِّيه بمثل السخاء الذي تُؤدِّيه به الدولة عندنا.
لكن يبدو أن فكرة هذه الجوائز قد يكتنفها شيء من الغموض في أذهاننا. إنها لم تكن تبدو بهذا الغموض كله في أول الأمر؛ إذ كان من الواضح للجميع أنها جوائزُ مُخصَّصةٌ للإنتاج الفعلي الذي ينتجه رجال الفن أو الأدب أو أصحاب الدراسات والتجارب العلمية الخالصة. فمن لم يُنشَر له فن أو أدب أو دراسةٌ علمية، لم يكن موضعًا للعرض في هذا المجال الخاص. وبعد ذلك فلِلدولة وسائلها الأخرى الكثيرة التي تُعلِن بها عن تقديرها لأصحاب الخدمات القومية الجليلة، كالأوسمة والمناصب والرواتب الاستثنائية وغيرها. فافرض مثلًا أن جنديًّا أحسن الأداء في ميدان القتال، فهو بالطبع يستحق تكريم الدولة، لكنه لا يُرشَّح لجائزةٍ من جوائز الفنون أو الآداب أو العلوم.
ومصدر الغموض — فيما يظهر — هو الخلط الشائع فينا شيوعًا واسعًا وعجيبًا، بين أن يكون الرجل مذكور الاسم مرموق المكانة لأي سببٍ من الأسباب، وبين أن نجعله صاحب حقٍّ في أي شيء يختاره لنفسه أو نختاره له، كأنما يكفي الإنسان أن يكون ذا منصبٍ ضخمٍ ليكون بعد ذلك أديبًا إذا أراد، فنانًا إذا شاء، عالمًا من علماء الاجتماع أو علماء الرياضة والطبيعة لو أحب، وهو خلطٌ واضحٌ في الترشيحات التي تتقدم بها الهيئات صاحبة الحق في الترشيح لجوائز الدولة كل عام؛ إذ كثيرًا جِدًّا ما تُرشِّح الهيئة رئيسها لجائزة الدولة التقديرية حتى ولو لم تَعرِف له المطابع قبل ذلك كتابًا أو بحثًا دارت به عجلاتها، أو لم تَعرِف له معارض الفن صورة أو تمثالًا من صنع فرشاته أو إزميله.
إن من أهم ما تحققه جوائز الدولة في ميادين الفن والأدب والعلم، هو الاعتراف بأن الفائز قد أنتج في هذه الميادين نفسها شيئًا ذا قيمة في ذاته، ثُمَّ هو ينفع الناس. وأودُّ هنا أن أضغط على كلمة أنتج وعلى عبارة «ينفع الناس»، وفي هذا تختلف جوائز الدولة كما نفهمها اليوم، عما كان يخلعه الأمراء والوزراء في الزمن القديم على الشعراء والعلماء؛ لأن الأمير أو الوزير من هؤلاء كان يخلع خِلعته على من شاء بغير حساب من جمهور الناس. وأمَّا اليوم فالذي يُعطي هم «الناس»، فإذا أراد الناس أن تُخصَّص جائز للفنون — مثلًا — وجب ألا تُعطى إلا لرجل من رجال الفن بما أنتجه في مجاله مما لقي تقدير الخبراء.
جوائز الفنون والآداب والعلوم لم تُخصَّص لمن ظفِر بشُهرة في أي مجالٍ آخر، وكذلك ليست هي وسائل الشهرة أو مال حتى في المجالات التي خُصِّصَت لها؛ فمن المُفارَقات التي تَلفِت النظر أن الجوائز الكبرى — عندنا وعند غيرنا — لا تجيء في أكثر الحالات إلا بعد أن يصبح أصحابها في غير حاجة إلى شهرة أو مال. إنها — كما قال عنها برناردشو — كطوق النجاة نعطيه لمن نجا بالفعل واستقر على شاطئ الأمان، لكن يبقى «الاعتراف» وأهميته في حياة الفرد وفي حياة المجتمع على حدٍّ سواء. ولعل أهم معنًى من معاني هذا الاعتراف، هو الإشارة الضمنية بأن الناس يُريدون للفائز أن يطمئن على حريته في إنتاجه الفني أو الأدبي أو العلمي على نحو ما كان يُنتِج، وأن يطمئن كذلك على راحته المادية إن كانت تنقصه.
فالإنتاج الفعلي في الميادين التي تُعطى فيها جوائز الدولة أمرٌ محتوم، وبغيره تبطل الحكمة في منحها. وبالطبع ليس هناك ما يمنع من التوسُّع في الجوائز لتشمل أي ضرب من ضروب النشاط، حتى إذا كان ذلك النشاط «موقفًا» مُعيَّنًا اتسم فيه صاحبه بالشجاعة والنزاهة. نعم، ليس هناك ما يمنع مثل هذا التوسُّع، لكن موضع المؤاخذة هو أن تكون الجائزة موجهةً في الأصل إلى رجال البحث العلمي — مثلًا — فنُوجِّهها نحو إلى أصحاب «المواقف» المتسمة بالشجاعة والنزاهة، أو نوجهها إلى أصحاب المناصب ذات النفوذ، أو إلى أصحاب الأسماء التي لَمعَت لأسبابٍ أخرى غير الإنتاج الفعلي في الميدان المعيَّن المقصود. لكن هذا الخطأ في التوجيه عند ترشيح الأسماء للجوائز كثيرًا ما يحدث، مما يقتضي — في ظني — أمرين؛ أولهما أن يُعاد النظر في طريقة الترشيح، وثانيهما أن تُصاغ شروط الجوائز صياغةً تُزيل عنها أسباب الغموض.