دكتوراه في الفلسفة
كانت الكلية التي سجَّلتُ فيها للحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة، هي ما يُسَمَّى بِكلية الملك في جامعة لندن. وكان المُشرِف على عملي هو الدكتور هاليت، وهو رجلٌ من طِرازٍ فريد؛ فمجال اختصاصه الذي تميَّز به في الجامعات البريطانية كُلها، هو إسبينوزا وفلسفته. وكانت طريقته في البحث والنظر تذكِّرني بأعتى شيوخ الأزهر السابقِين، الذين لم تكن تُبهِرهم الأضواء الحديثة بقَدْر ما يُؤرِّقهم الإخلاص الشديد لمادة البحث بين أيديهم، كذلك الباحث القديم الذي قيل عنه إنه أخذ يبحث في كلمة «حتى» من جميع وجوهها النحوية، ومع ذلك فلم يشعر بأنه قد استوفى بحثه بصورةٍ تُرضيه، فقال ما معناه إنه سيموت وفي نفسه شيءٌ من «حتى»! ومن هذا الطراز العجيب كان الدكتور هاليت؛ فهو أستاذٌ أكاديمي عتيدٌ عنيدٌ بحَّاثةٌ دقيقٌ دءوب في رُوحٍ من الهدوء والبساطة يَلفِتان النظر.
وكان الموضوع الذي أردتُ بحثه هو «الجبر الذاتي»، قاصدًا بذلك حرية الإنسان في تقرير مصيره، بغض النظر عن العوامل الخارجية المحيطة به. وكنتُ إذ ذاك مُشبعًا بمزيجٍ من فلسفات برجسون والبرجماتية والوجودية، مُختلطًا بعضها ببعضٍ في وجهةِ نظرٍ واحدة. ولم يكن بيني وبين الأستاذ هاليت اتفاقٌ في وجهة النظر، لكنَّ الأمر في البحث الجامعي ليس أمر نظرٍ خاص ووجهته، بل هو أمرُ نصوصٍ وكيف تُستخرج منها النتائج ويُستشهد بها. ولقد أَخذتُ من ذلك الرجل أعظم فائدةٍ يمكن أن يُفيدها طالبٌ من أستاذه؛ لأنه كان يُرهِف لي عقله كُله، ليلتقط ما عسى أن يكون في عِبارتي من مآخذَ وثقوب. وكنتُ بدَوري أُعِدُّ نفسي قبل لقائه أجود إعداد، لأقترب من مستواه في النقد ورَدِّ النقد. وإني لأُشهِد الله بأني قد خَرجتُ آخر الأمر شخصًا آخر غير الذي كان عند دخوله، من حيث يقظة الوعي ودقة العبارة.
وبينما أنا غارقٌ إلى الأُذنَين في بحثي عن «الجبر الذاتي»، إذا بالنبأ يشيع بأن «الكلية الجامعة» — وهي الكلية التي حَصَلتُ منها على درجة البكالوريوس الشرقية من الدرجة الأُولى — قد جاءت بأستاذٍ باحث ليتولى رئاسة قسم الفلسفة بها، هو الدكتور آير. ووَفْقَ التقاليد الجامعية هناك كان لا بُدَّ لهذا الأستاذ الجديد أن يُلقي محاضرةً عامَّة في ميدان تخصُّصه لتكون بمثابة الإعلان عن بَدء اضطلاعه بمنصبه.
واستعدادًا لحضور تلك المحاضرة العامة، جمعتُ من مكتبة الجامعة الرئيسية مُؤلَّفات آير هذا، لأُلِم بفكره واتجاهاته قبل أن أراه. وكان بين مُؤلَّفاته تلك كتابٌ صغيرٌ عنوانه: اللغة والحقيقة والمنطق، يعرض فيه بكل قوةٍ ووضوح، اتجاهًا جديدًا لجماعةٍ من فلاسفة العلوم، ظَهرَت أول الأمر في مدينة فينَّا بالنمسا، ثُمَّ انتَشرَت في أجزاءٍ من أوروبا وأمريكا، وكانت تُسَمِّي اتجاهها ذاك باسم «الوضعية المنطقية»، قاصدةً بهذه التسمية أنها أوَّلًا تُساير المذهب الوضعي الذي أشاعه قبل ذلك أوجست كونت في فرنسا، والذي خُلاصته أن النظرة العلمية تُحدِّد نفسها بالظواهر كما تظهر، وأمَّا ما وراء تلك الظواهر مما يخفى على المُشاهَدة والتجرِبة فلا يدخل في مجال التفكير العلمي، اللهم إلا إذا كان مُستدلًّا استدلالًا سليمًا من التجارب والمُشاهَدات. وثانيًا أضافت تلك الجماعة جانبًا آخر إلى ما سبقهم به أوجست كونت، وهو أنه لا داعيَ للأشياء نفسها الموجودة في الطبيعة، لتعلم إن كانت جملةٌ من الجمل التي يقولها الناس هي مما يمكن أن يندرج في مجال العلوم أو لا يندرج؛ إذ يكفي في ذلك أن تُحلَّل ألفاظ الجملة — موضوع النظر — وطريقةُ تركيبها، لِتُعرف إن كانت صالحةً لأن تكون جزءًا من عِلمٍ وضعي أو غير صالحة؛ ومِنْ ثَمَّ فقد أُطلق على هذا الاتجاه الجديد اسم الوضعية المنطقية؛ لاكتفائه بالتحليل المنطقي للعبارات اللغوية، في قَبول ما يصلُح للعلم ورفض ما لا يصلح.
وما زلتُ أذكر تلك اللحظة التي لمَعَت عندها في رأسي تلك اللمعةُ المضيئة، التي خُيِّل لي معها أن غطاءً قد انكشف أمامي عن حقيقةٍ كانت مخبوءةً عني، وتلك هي أن اللغة حاجزٌ يقف بين الإنسان والأشياء، ولا سبيل إلى اختراق هذا الحاجز اللغوي لرؤية الطبيعة على حقيقتها، وإذن فلا بُدَّ من تحليل تلك اللغة تحليلًا يُميِّز فيها بين ما هو عِلمٌ مما ليس عِلمًا. وفي هذه الحالة يكون عمل الفيلسوف أشبه بعمل الخبير بالنقود، يعرف كيف يميِّز في قِطَع النقود بين الحقيقي منها والمُزوَّر.
منذ تلك اللحظة، وإلى هذه الساعة، لا أجد لنفسي ما يُبرِّر أن أنظر إلى العمل الفلسفي نظرةً أُخرى غير هذه. وبهذا الاعتقاد الجديد ذهبتُ لأستمع إلى الأستاذ آير وهو يُلقي محاضرة الافتتاح.
وكان الدكتور كيلنج — صاحب المرجع المعروف في فلسفة ديكارت — هو أستاذنا في الفلسفة الحديثة عندما كُنتُ في «الكلية الجامعة» قبل أن أتحوَّل عنها إلى «كلية الملك»، ولم أكن أرى فيه ما يملؤني إعجابًا به، مع أنه كان أَوَّل أستاذٍ بريطاني ألتقي به في إنجلترا. نعم، إنه ذكي، ومُلِمٌّ بمادته إلمام الباحث الدارس، أمَّا نفاذ البصيرة، ومسايرة الحركة الفكرية مسايرةً تتفق مع منصبه الجامعي، فلم أكن أرى فيه شيئًا منه. لقد درس في السوربون بعد أن درس في إنجلترا، وله لحيةٌ صغيرة يَصبِغها بما يُشبه الحِناء، وقد دعاني ذات مساء على عَشاء في منزله، فوَجَدتُه منزلًا مُكدَّسًا بالكتب، وهو متزوج من سيدةٍ فرنسية، والظاهر أنه لا ولد له، وقد اعتذر لي عن تواضُع مسكنه، قائلًا: إن بيتي الأول قائم في باريس؛ حيث أقضي أطول وقتٍ مستطاع.
وكان من الأفكار التي تحمَّس لها أثناء حديثنا — وكان الحديث قد تناول الأدب المسرحي — أن شكسبير لا يستحق هذه الضَّجَّة كلها التي يُثيرونها حوله؛ فليس هو بشاعرٍ من الطراز الأول. أين هو في القدرة على البناء الشعري من راسين أو كورني؟ فقلت لنفسي: تُرى لأي حدٍّ تجيء آراء الرجال انعكاسًا لجنسية الزوجات؟ … إن كيلنج رجلٌ عليلٌ ضعيف البِنية، ولقد كان يطمع في دعوةٍ تُوجَّه إليه من جامعة القاهرة ليقضي في دفء مصر عامًا أو عامَين، لَعلَّه ينعم بشيءٍ من الصحة، وظنَّني قادرًا على أداء هذا الصنيع. والحق أني تمنَّيتُ يومئذٍ لو أن بي شيئًا مما ظَن، لكنَّ عيني كانت بصيرة، وأمَّا يدي فكانت أَقصَر جِدًّا مما ذهب إليه خيالُ الذين أَجرَوا هذا المثَل على أَلسِنة الناس.
كان لي في لندن ضروب من النشاط الثقافي تستحق أن تُذكَر، منها أن جامعة لندن فور انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥م أعدَّت برنامجًا عامًّا للمواطنِين في بريطانيا، الذين يُزمعون السفر إلى الشرق الأوسط، فكان أن طَلبَت من السفارات العربية المختلفة أن تُرشِّح من أبنائها المُقيمِين في بريطانيا من يُلقون المحاضرات في الموضوعات التي أرادت الجامعة أن تُدار حولها الأحاديث، فرشَّحَتني السفارة المصرية لأحاضر في الأدب العربي المعاصر، متمثِّلًا في أديبٍ بعينه تُرك لي اختياره، كما أَذكُر أنها رشَّحَت معي في جلسة الأدب زميلي الدكتور محمد النويهي ليحاضر في الأدب العربي القديم، فاخترتُ العقاد شاعرًا؛ لأنني كنتُ وما أزال مؤمنًا بأن العقاد في شعره قد جسَّد تطوُّرًا عميقًا في قيم المجتمع العربي؛ إذ نَقَلَ محور الارتكاز إلى الفرد المتميِّز من سائر الأفراد، بعد أن لم يكن للفرد في المجتمع العربي وزنٌ كثير. ولقد رأيتُ يومئذٍ بأنه لا جدوى من الحديث المُجرَّد، دون أن يسمع الحاضرون نماذجَ من شعر العقاد مُترجَمًا إلى الإنجليزية، فاستثرتُ كل ما أملك من قدرةٍ لغوية، وترجمتُ أكثر من مائتَي بيتٍ من شعر العقاد، شعرًا إنجليزيًّا، ثُمَّ تابعت بعد ذلك عملية الترجمة إلى أن توافر لي قَدْر لا بأس به، وأرسلتُ أجزاءً مما تَرجمتُ إلى المجلات الأدبية في بريطانيا أوَّلًا، ثُمَّ في الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك، فكان من احتفال تلك المجلَّات المُتخصِّصة بما أَرسَلتُ، شاهدٌ لي بأن الترجمة الشعرية التي قمتُ بها لم تخلُ من قيمة.
وكذلك كان من أَوجُه نشاطي الثقافي في بريطانيا في تلك الفترة، محاضراتٌ ألقيتُها بدعوةٍ من معهدنا المصري في لندن، قمتُ فيها بتحليلٍ مستفيضٍ للثقافة المصرية التي كانت سائدةً في ذلك الحين، وهي ثقافة كانت تتميز بازدواجيةٍ واضحة، كأن مصر كان يسكنها شَعبانِ لا شعبٌ واحد.