عن الدراسات العليا
الدراسات العليا في جامعاتنا قائمة على غير أساس، وسائرة إلى غير هدف. وحتى إذا كان هذا الحكم ليس صحيحًا على إطلاقه، فلا شك أنه صحيح على الأعم الأغلب.
فهي قائمة على غير أساس؛ لأن الأمر متروك فيها لكل طالب على حدة، يُقرِّر مع أستاذه موضوع بحثه الذي يعتزم القيام به للحصول على الماجستير أو على الدكتوراه، كأنما هذا الطالب كائنٌ منعزلٌ يعيش في فلاة وليس معه إلا الأستاذ الذي يُكلَّف بأن يلتقي به آنًا بعد آن، التقاءً الله أعلم بمدى نفعه ومدى جِديته. ويكفي أن نَذكُر هنا أنه قد يحدث للأستاذ الواحد أن يشرف على خمسين طالبًا من طلبة الدراسات العليا، بل هنالك حالاتٌ زادت فيها حالات الإشراف العلمي عند الأستاذ الواحد على الخمسين. ولك أن تحسب كم دقيقةً يستطيع أن يَقضِيها مثل هذا الأستاذ مع كل طالب، وبأي تركيزٍ يمكنه الاضطلاع بمهمته.
وبسبب هذه العزلة الغريبة التي يعيشها الطالب في بحثه، تُطالِعنا الصحف كل يوم بموضوعات الماجستير أو الدكتوراه التي تُعرض على لجان الامتحان هنا وهناك من أرجاء جامعاتنا، فإذا بنا نقرأ عن موضوعاتٍ ما أنزل الله بها من صلةٍ تربطها بأي وجهٍ من وجوه حياتنا؛ وبالتالي فهي لا تُسهِم في حل مشكلة واحدة من مشكلاتنا. ولعل القارئ لا يعلم أنه بمجرد عرض الرسالة المعينة على لجنة للامتحان، كان مُحقَّقًا أن تنجح، وكان شبه مُحقَّق أن يجيء نجاحها «مع مرتبة الشرف»؛ لأن أمرها في هذه الحالة لم يعُد أمر طالبٍ وبحثه، بل يدخل في الموقف عنصرٌ هام، هو كرامة الأستاذ الذي قيل عنه إنه أشرف على البحث. وإني لأتصوَّر أن ما أنجزه الباحثون في هذه الدراسات قد يُعَد بالألوف، ثُمَّ أتصور أن هذه الألوف تنتهي مهمتها بانتهاء الإعلان بأنها نَجحَت مع مرتبة الشرف. وأمَّا أن نسمع بعد ذلك أنها — أو أن بعضها — قد رسم لنا طريقًا لمعالجة هذه المشكلة الفعلية أو تلك من مشكلات واقعنا الذي نحياه، فذلك إن لم يكن معدومًا فهو شِبه معدوم.
ومن أجل هذا زَعَمتُ أن دراساتنا العليا تقوم على غير أساس. وأمَّا الأساس السليم الذي كان ينبغي أن تُقام عليه فهو أن تكون هنالك أوَّلًا المشكلة التي يُراد حلها بأمثال تلك البحوث، ثُمَّ تكون هنالك هيئةٌ عليا من علماء الجامعات تتولى تحليل هذه المشكلة إلى جوانبها الفرعية الداخلة في نشأتها وكيانها ثُمَّ في علاجها. وعندئذٍ يكون كل جانب من هذه الجوانب موضوعًا لبحث يقوم به طالب من طلبة الدراسات العليا. وقد لا تكون جونب المشكلة الواحدة مما يتم بحثه في قسمٍ واحدٍ من كليةٍ واحدة، بل قد تتنوع تلك الجوانب حتى ليستوجب تنوُّعها ذاك أن يضطلع بدراستها طلابٌ من أقسامٍ مختلفة، وربما من كلياتٍ مختلفةٍ وجامعاتٍ مختلفة؛ وحيث يفرغ هؤلاء جميعًا من بحوثهم، كلٌّ في الجانب الذي خصَّه من المشكلة، يمكن عندئذٍ أن تُضَم الرسائل لا لتُوضع — كالتحف في مخزن الآثار — بل لتُوضع في تكاملٍ بعضها مع بعض يجيب عن السؤال الواحد الكبير الذي كان بادئ ذي بَدءٍ مطروحًا للبحث.
إن أهم المشكلات التي نراها مطروحةً أمامنا اليوم — وهذا على سبيل المثال — مشكلة ربط القوانين بالشريعة الإسلامية، فمن الذي من حقه أن يجيب إذا سألنا أنفسنا: كيف يتحقق ذلك؟ أليس للباحثِين في الشريعة نفسها مجال، وللباحثِين في القوانين مجال، وللباحثِين في أوضاع المجتمع كما هي قائمةٌ بالفعل مجال؟ فماذا لو قامت هيئةٌ جامعيةٌ عليا بتحليل المسألة إلى أكبر عددٍ مستطاعٍ من عناصر، ثُمَّ وُزِّعَت تلك العناصر على طلبة الدراسات العليا بإشراف أساتذتهم؟ وفي هذه الحالة سيشترك في الجواب طلبةٌ من كلية الشريعة وطلبةٌ من كليات الحقوق وطلبةٌ من أقسام الاجتماع وعلم النفس في كليات الآداب.
خذ مثلًا آخر. افرض أن البحث المطلوب خاصٌّ بالأمراض المُتوطِّنة في إقليمنا، فهل تظن أن المشكلة تنتهي بنا إلى حلٍّ كاملٍ وشامل إذا انفرد بها باحثون من علماء الطب؟ أليست عادات الناس في سلوكهم اليومي قد تُفسِد على علماء الطب كل نتائجهم العلمية؟ وإذن فلا بُدَّ من تقسيم الموضوع إلى أكثر من تخصُّصٍ واحد، وأكثر من كليةٍ واحدة.
بهذا التخطيط العلمي الدقيق يكون التعاون بين التخصُّصات العلمية في مجال الدراسات العليا، ثُمَّ بهذا التعاون تَتوحَّد الأهداف لما يضطلع به الباحثون في تلك الدراسات. ولستُ أتصور كيف تكون العلاقة بين الجامعة والمجتمع إلا على هذه الصورة؛ فللمجتمع مشكلاته، وللجامعة الباحثون الذين يُقدِّمون لتلك المشكلات حلولها العلمية الصحيحة.