الحروف والكلمات
قرأتُ بعض ما كتبه نُقاد الفن في لندن، تعليقًا على ما قد شَهِدوه من معروضات الفن الإسلامي هناك، بمناسبة المهرجان الإسلامي الذي أُقيم أخيرًا في العاصمة البريطانية، فكان مما عَجِبتُ له اتفاق هؤلاء النقاد — برغم اختلافهم — على نقاطٍ رئيسيةٍ تَلفِت النظر، وهي نُقطٌ أبدَت في نفسي فكرةً آمنت بها منذ حينٍ بعيد، وهي أن أقوى رباطٍ ثقافيٍّ يمكن أن يربط أبناء اليوم بأجداد الأمس هو الفن؛ لأن اللحظة الفنية الواحدة إذا عاشها مبدعوها في الماضي، ثُمَّ عاشها متذوقوها في الحاضر التقى المبدعون الأوائل بالمُتذوقِين الأواخر على وِجدانٍ واحد.
وها أنا ذا أقرأ لنقاد الفن ذوي المكانة المرموقة في لندن، لمحاتٍ مضيئةً نافذةً إلى الأعماق، زادتني إيمانًا بما كنت أعتقد في صوابه، كما زودتني بعلم ما لم أكن أُدرِكه في فننا الإسلامي. ولقد كنتُ أقرأ ما كتبه هؤلاء النقاد فأشعر بالزهو يملأ نفسي كلما انتَقَلتُ من سطر إلى سطر؛ لأن كل سطر مما كتبوه جاء مفعمًا بشعور الدهشة لروعة ما تقع عليه أبصارهم، مُعترفِين بأنهم كانوا يظنون قبل رؤية اليوم، بأن روعة الفن الإسلامي مقتصرةٌ على وسائل «الديكور» الداخلي من جهة، وعلى فن العمارة من جهةٍ أخرى، فإذا هم يرون كنوزًا تتلوها كنوز. والأمر — كما قال أحدهم — خُلاصته أنه كما تدفق البترول في الأرض العربية الإسلامية، فتَغيَّرَت صورة الأرض وأهلها فجأة، فكذلك جاءت معروضات الفن الإسلامي في تنوُّعها وفي تكامُلها فتَغيَّرَت فجأةً في أذهان المُشاهدِين صورة الماضي الثقافي للعرب والإسلام؛ بحيث بات واضحًا أنه ماضٍ جديرٌ بالتأمُّل والدرس والتقدير.
على أنني لم أكتب هذه الأسطر لأُزهى بماضٍ هو ماضينا الذي عرفناه فقدَّرْناه، وربما جهله الآخرون فلم يُقدِّروه إلا حين عرفوه، وإنما أكتب هذه الأسطر لأُشير إلى سِمةٍ في الفن الإسلامي كانت أبرز مما استرعى الانتباه عند هؤلاء النقاد، وهي سمةٌ ينفعنا ذِكرها وتأكيده؛ لأنها تَصلُح لهدايتنا في قضيتنا الثقافية الكبرى التي هي: كيف نعيش عصرنا ونعيش ماضينا في آنٍ معًا؟
وتلك السمة البارزة هي ظاهرة «الكتابة العربية» وكيف تغَلغَلَت في نتاج الفن الإسلامي كله تقريبًا؛ فالسيادة في هذا الفن هي للحرف والكلمة والعبارة، تراها منقوشةً هنا محفورةً هناك، مزخرفةً هنا وهناك. ولما كانت آيات القرآن الكريم هي الشائعة في ذلك الإبداع الفني، اكتَسبَ الفن المستعين بها قداسةً من قداستها. فإذا كنت من المُسلمِين المُؤمنِين أعطاك المعنى بُعدًا دينيًّا عميقًا تُضيفه إلى التذوق الفني. وإذا لم تكن — كهؤلاء النقاد — شَعَرتَ بمحض ذوقك الفني كأنما القطعة الفنية بين يدَيك قد جاءت فيضًا من السماء، ولم تكن مجرَّد صناعةٍ بشريةٍ أخرجتها مصانع الفن وصاغتها أصابع الفنان.
إن النقاد مُتفقون فيما بينهم على شعورهم «بالوحدة» التي تربط كل الروائع المعروضة برباطٍ يجعلها جميعًا فنًّا واحدًا، يتسم بروحٍ واحدة، مع أن تلك الروائع قد جُمِعَت من نتاج أزمانٍ متباعدة على مسافة ألفٍ وأربعمائة عام، كما جُمِعَت من أماكنَ مُتباعدةٍ تَباعُد الصين عن إسبانيا. فكيف أمكن — برغم هذا التباعُد الشاسع في الزمان وفي المكان معًا — أقول كيف أمكن برغم هذا التباعُد الشاسع أن تَتوحَّد الروح الفنية توحُّدًا يجعلك لا تخطئ الحكم بأن ما أمامك هو فنٌّ إسلامي، صغُرَت القطعة المعروضة أم كبُرَت، قرُب تاريخ إنتاجها أم بعُد؟ كيف أمكن — هكذا تساءل أحد هؤلاء النقاد — أن يتجانَسَ فنٌّ نتج في قصر إمبراطورٍ مغوليٍّ في أطراف الصين، مع فنٍّ نتج في خيمة بدوي في الصحراء العربية؟ الجواب عند هؤلاء النقاد جميعًا هو: إنه عنصر الكتابة العربية التي اتخذها الفنان المسلم سمةً رئيسيةً في إبداعه الفني. فإذا تفاوَتَت القيمة المادية بين قطعةٍ كانت في قصر إمبراطور المغول، وقطعةٍ كانت في خيمة البدوي، فبين الاثنتَين سمةٌ مُشترَكة، هي نماذج الكتابة العربية الداخلة في التصميم الفني، لا سيَّما إذا كانت تلك الكتابة — ويغلب أن تكون — آياتٍ من القرآن الكريم. إنه حيثما سارت «الكلمة» الإسلامية، لفظًا ومعنى وكتابة (والكتابة هي التي تعنينا هنا لأنها العنصر المنظور؛ ومِنْ ثَمَّ فهي العنصر المستخدم في التشكيل الفني) أقول إنه حيثما سارت «الكلمة» الإسلامية تفاعَلَت مع عناصر الفن السائدة في الإقليم المعيَّن، وباتت جزءًا لا يتجزأ من فن ذلك الإقليم. ومن هنا جاءت تلك الوحدة العجيبة التي ربطت الفن الإسلامي كله بروحٍ واحدةٍ مُميَّزة.
الفن الإسلامي هو التعبير القوي عن الطاقة البصرية عند المسلمين وقد تَجسَّدَت وتجلَّت أمام المُشاهدِين. فإذا كان من أهم ما يُميِّز هذا الفن بساطة التكوين في الشكل العام، ثُمَّ الثراء الغزير في تفصيلات الأجزاء الداخلة في ذلك الشكل العام، فهكذا الإسلام نفسه: بساطةٌ منطويةٌ على غنًى. وبمثل هذا التذوُّق الفني يمكن لأبناء اليوم أن يندمجوا مع آباء الأمس، فلا يضيع عليهم ماضٍ، ولا يفلت منهم حاضر.