لنا رسالة
صادَفَتني إحصائية عن الكتب العربية التي تُرجمت إلى لغاتٍ أخرى خلال العشرين عامًا الممتدة من سنة ١٩٤٨م إلى سنة ١٩٦٨م، فعَلِمتُ منها أن عدد الكُتب التي تُرجمَت من العربية إلى غيرها خلال تلك المدة قد أوشك على ألفَين؛ ألفٍ منها في الأدب، ونصفِ ألفٍ في الدين، ونصفِ الألف الباقية في شتى الفروع الأخرى من علوم وفلسفة وقانون وتاريخ. ومما يَلفِت النظر أن اللغات الأخرى التي تُرجمَت إليها كتبنا العربية، تشمل كل بقاع الأرض تقريبًا؛ ففضلًا عن اللغات الأوروبية الرئيسية كلها، تجد عددًا كبيرًا من اللغات الآسيوية والإفريقية.
إذن فالكتاب العربي مقروءٌ في أرجاء العالم، حتى وإن يكن مقروءًا على نطاقٍ ضيِّق، أضيق جِدًّا مما كان ينبغي، لكن الأمر الهام الذي سرعان ما يشغل الذهن هو هذا: تُرى هل كانت تلك المادة التي نُقِلَت عنَّا إلى الآخرِين مما يمكن في مجموعه أن يحمل وجهةَ نظرٍ خاصةً بنا؛ بحيث تُعرَف بنا ونُعرَف بها؟ وإن هذا السؤال نفسه لَينقُلنا إلى سؤالٍ أسبقَ منه، هو: ماذا عساها أن تكون رسالتنا إلى الدنيا المُعاصِرة لو كانت لنا رسالة؟
رسالتنا الثقافية إلى عالم اليوم، إنما يُوحي بها ما ينقص هذا العالم برغم تقدُّمه العلمي الواثب بخطوات الجبابرة، بل إنه نقصٌ بسبب ذلك التقدُّم العلمي وما أنتجه في علاقات الناس بعضهم ببعض من نتائجَ رهيبة؛ فهي رسالة إنسانية قبل أي شيءٍ آخرَ وبعد كل شيءٍ آخر. وإنها لَرسالةٌ — فوق كونها تَسُد نقصًا في حضارة العصر — فهي هي الرسالة التي يُمليها علينا تراثنا بكل جوانبه.
لقد كانت ساعةً من أنفع الساعات التي قضيتها قارئًا. وأعني بها الساعةَ التي طالَعتُ خلالها تقريرًا مُوجَزًا مُكثفًا عما أنتجه الأدباء والمُفكِّرون في أرجاء العالم خلال العام الماضي — عام ١٩٧٥م — فإذا به نتاجٌ يُثير الفزع؛ ففي إيطاليا كان من أبرز الحوادث في دنيا الأدب والفكر، أن كاتبًا أخذ يُطارِد بمقالاته وقصصه نزعةَ العنف الفظيع الذي ساد الشباب، فقتله الشباب! وهنا لم يَفُت كاتب التقرير أن يقول إن فوز الشاعر الإيطالي مونتالي بجائزة نوبل قد أحدث شيئًا من التوازُن في حياة إيطاليا الثقافية. وفي فرنسا قدَّم لنا كاتب التقرير صورةً عجيبةً من فقدان الثقة فقدانًا تامًّا بين جيل الشباب من الأدباء وجيل الشيوخ، حتى لقد اضطُرَّت سلطات الأمن أن تُحيط المكان الذي اجتَمعَت فيه لجنة المُحكمِين في جائزة جونكور بقوةٍ ضخمةٍ من رجال الشرطة لحراستهم من جموع الشباب الغاضب. في الولايات المتحدة كان أهم ما أنتجه الأدباء والباحثون فيما يخص حياة الناس الجارية، كتبًا خاصة بالحياة الجنسية — سويةً أو منحرفةً — وقصصًا أو كُتُبً تدور كلها حول الرعب والاختطاف والاغتيال والدمار. وقال صاحب التقرير عن ألمانيا الغربية إنها لم تنتج خلال العام شيئًا ذا بال، اللهم إلا كُتُبًا يقُص فيها مُؤلِّفوها ذكرياتهم الخاصة أو شيئًا من التاريخ بصفةٍ عامة. وأمَّا الاتحاد السوفيتي فقد اكتفى صاحب التقرير بذكر قصتَين قال عنهما إنهما كانتا أشيع الكتب هناك، وكلتاهما تدور حول التكافل الاجتماعي. وختم الكاتب تقريره بكلمةٍ عن الصين قائلًا إن أهم ما صدر عندهم كتابٌ مُوجَّهٌ إلى الشباب يُرشِدهم إلى طريق الصحة في حياتهم إبَّان تلك الفترة من العُمر.
فلو لخصنا الحصاد الأدبي في العالم خلال سنة ١٩٧٥ — بناءً على هذا التقرير الصحفي المُوجَز الذي أَشرتُ إليه — لقلنا إنه كان حصادًا مَدارُه محوران هما الجنس والعنف! وأمَّا ما عدا ذلك من نوازع الإنسان فلم يظفر عندهم باهتمام. ولكي نتصور كيف أصبح الناس في حضارة السرعة الملهوفة يتجاهل بعضهم بعضًا، ننقل صورةً رواها مسافر من أستراليا نقلًا عن الصحف، وهي أن شيخًا تَقدَّمَت به السن رُئي جالسًا على مقعد في جانب الطريق، رأسه ينحني على صدره، وذراعه ملتفةٌ حول ظهر المقعد. وشاءت المُصادَفة أن يقف أمامه أحد المارة، ورَبَّت على كتفه، راجيًا إياه أن يُشعل له سيجارته، فإذا بجسم الرجل يسقط مُكومًا … كان ميِّتًا على مقعده ليومَين كاملَين، لم يأبه به أحدٌ من المارَّة في الطريق المُزدحِم.
الذي يَنقُص حضارة العصر هو التراحُم بين الناس، وليس من شأن الحياة الصناعية أن تخلُق هذا التراحُم المطلوب، أفلا نجعله نحن محورًا لرسالةٍ ثقافيةٍ نؤديها؟!