دفاع عن المعقول
أحب — كعادتي — أن أبدأ بتحديدٍ لمعاني الكلمات التي أستعملها، حتى يضيق مجال الخطأ بقدر المستطاع. والكلمة التي تريد التحديد هنا هي كلمة «المعقول» (وبتحديدها يتحدد معنى اللامعقول كذلك) فمتى يكون الكلام معقولًا؟
إنه لمن حُسن الحظ أن نجد العلاقة وثيقةً بين معنى هذه الكلمة في استعمالها المألوف، وبين معناها في أصلها اللغوي؛ لأن هذه العلاقة الوثيقة بين المعنيَين تُلقي من الضوء ما يكفي لتحديد المطلوب؛ فالأصل اللغوي هو أن «تعقل» الدراسة بمعنى أن تُقيِّدها بقيد، فلا تنساب على غير هدى. وكذلك «العقل» في استعمالنا المألوف لهذه الكلمة هو «القيد» ألذي يُقيَّد به الكلام فلا ينساب كما اتفق، بل يتجه في خطٍّ معلومٍ ليُحقِّق غايةً منشودة. وبهذا يكون «المعقول» معقولًا لأنه مقيدٌ بالهدف المقصود، ومُقيَّد بالخُطى التي من شأنها أن تبلغ ذلك الهدف؛ فحيث لا خُطى تَتَتابع على نحوٍ يُحقِّق نتيجة، لا يكون عقلٌ ولا يكون معقول. وعلى هذا الأساس نفسه يكون اللامعقول سيرًا كما اتفق وبغير هدفٍ معلوم. والقيد الأكبر الذي نفرضه على أنفسنا حيث يكون عقل، ونتحلل من حيث لا عقل، هو قيد «الحق»؛ فليس «الحق» من صنعنا، لكنه مفروضٌ علينا من خارج ذواتنا. فإذا ما التزمناه فيما نكتب أو فيما نقول كان الكلام «معقولًا» — أي مقيَّدًا بالواقع الحقيقي — وأمَّا إذا لم نلتزمه كان لنا أن نقول أو أن نكتب ما نشاء ولا حرج.
والأمر لا خلاف عليه حين يكون موضوع الحديث هو ظواهر الطبيعة؛ فالمجنون وحده هو الذي يُحدِّثك عن الشجر — مثلًا — حيث لا شجر، أو هو الذي يُحدِّثك عن قيام الشيء الواحد في مكانَين في وقتٍ واحد. لكن الخلاف في وجهات النظر يبدأ حين يكون موضوع الحديث هو «الإنسان»؛ فها هنا قد تجد من يقول إن للإنسان طبيعةً لا تلتزم منطق العقل. ألا تراه في أحلامه وفي أساطيره كيف يتحدث عن أشياءَ تَقبلُها نفسه «اللامعقولة» مهما رفضها العقل وتنكر لها؟ وها هنا أيضًا قد يسأل أعداء العقل فيقولون: كيف نلتمس «العقل» في الأدب والفن، والعقل من طبيعته التجريد والتعميم، على حين أن الأدب والفن من طبيعتهما الخبرة الفردية الفريدة المُباشِرة التي لا تجريد فيها ولا تعميم؟
وجوابنا — نحن أنصار العقل — هو أن الفن والأدب مُقيَّدان بنفس القيود التي يتقيد بها الإنسان وهو في مجال العلوم الطبيعية. وأعني بها قيود «الحق» كما هو قائمٌ وواقع؛ فالعلوم الطبيعية من جهة، والفن والأدب من جهةٍ أخرى، كلاهما مُقيَّد «بالصدق» في القول؟ وكل ما بينهما من اختلاف هو أن هذا «الحق» أو هذا «الصدق» مباشر في حالة العلوم وغير مباشرٍ في حالة الأدب والفن؟ أعني أنك في الحالة الأولى تجد الحق مصوغًا في صياغةٍ مجردة، قد تكون على صورة المعادلات الرياضية، أو على صورة الأحكام العامة الشاملة. وأمَّا في الحالة الثانية — حالة الفن والأدب — حيث المضمون مُتفردٌ فريد، فتحتاج إلى تفريغ القطعة الأدبية أو الفنية من مضمونها العيني. وإذا بك أمام شبكة من علاقاتٍ مجردة، تُبيِّن لك حقيقة الطبائع البشرية في فاعليتها وفي تفاعلاتها. وعندئذٍ لا يكون فرق — من حيث التقيُّد بالحق — بين علم وفن.
واستعرض تاريخ الأدب الخالد ما شِئت، تجد أن ما قد ضمن له الخلود هو التزامه «الصدق» أو «الحق»، وهو لا يلتزم هذا الصدق إلا إذا أمكن أن يُطبَّق عليه مقياسٌ خارجيٌّ لا حيلة لنا فيه لأنه مفروض علينا، وهو مقياس الطبيعة كما هي قائمة، سواءٌ في ذلك الطبيعة الجامدة أو الطبيعة الحية.
وأمَّا إذا انتَجتَ أدبًا ثُمَّ فَرَضتَ فيه بادئ ذي بَدءٍ أنه «لا معقول»، فأقل ما يُقال فيه عندئذٍ أن محاولة التفسير قد امتَنعَت واستحالت؛ لأن كل تفسيرٍ «عقل». أفليس من التناقض — إذن — أن يتناول النقاد قطعةً أدبيةً قيل فيها إنها «غير معقولة» — أي غير مُقيَّدة بقيد الخُطى وقيد الهدف — ويحاولون أن يبيِّنوا لنا فيها «المغزى» و«المعنى» و«الغاية» و«الهدف»؟ كلا، إنه لا نقد إلَّا فيما يقبل التحليل، ولا يقبل التحليل إلَّا ما ينطوي على عناصر من شأنها أن تتماسك في خطٍّ واحد، نعرف كيف نسير به لِيوصلنا إلى نهايةٍ معلومة. وواحدية الخطة وواحدية الهدف «عقل». نعم قد يكون في «اللامعقول» «سحر»، بل إن «السحر» بمعناه الحرفي هو محاولة الوصول إلى نتائجَ من غير مُقدماتها الضرورية؛ فنقرع الطبول — مثلًا — لينزل المطر، أو نضع في جيب المريض ورقةً مكتوبةً بالطلاسم ليزول المرض. وإذن فكل سحر هو لا معقول، ومقلوب هذه القضية هو أن في بعض اللامعقول سحرًا. أقول نعم قد يكون في اللا معقول سحرٌ يفتننا، ولكن من ذا الذي قال إن الأديب العظيم يكتب ليَسحر؟! لا ليست هذه هي مهمة الأديب العظيم، بل مهمته هو أن يصوغ «الحق» في بناءٍ من اللفظ إن يكن ذا طابعٍ فريدٍ في مضمونه الفني، فوراءه حقيقةٌ مجردةٌ عن الطبيعة الإنسانية قد تجَسَّدَت فيه؛ فحتى لو أراد الأديب أن يُجسِّد في أدبه الجانب اللامعقول من الإنسان، فهو إنما يفعل ذلك بطريقةٍ معقولة.
أمَّا بعد، فقد اجتاحت أوروبا، وما تزال تجتاحها، موجةٌ تُعلي من الجوانب اللامعقولة من الإنسان، ولعلها موجةٌ خلقتها هناك ظروف، من أهمها أنهم شبعوا «عقلًا» حتى أُتخِموا؛ فللعلوم الطبيعية هناك سلطانٌ أي سلطان! والعلوم كلها عقلٌ صِرف، ولو اقتصر أمرها على الطبيعة الجامدة لمَّا ضاقت النفوس، لكن محاولاتٍ كثيرةً تأخذ في الانتشار، تبتغي إخضاع الإنسان نفسه لتلك العلوم! وقد لا يكون في ذلك خطأ، لكنه على كل حالٍ مما يضايق الناس في عواطفهم؛ ولهذا كله ثار الثائرون هناك يهتفون بسقوط «الفكر» وبحياة «العاطفة»؛ العاطفة لا معقولة، إذن فعلينا بما يُحقِّق للعاطفة نشوتها، وللفرد وجوده. ألم يكشف لنا فرويد عن حقيقةٍ عجيبة، وهي أن الإنسان ليس حيوانًا «عاقلًا» كما كان يُقال عنه منذ أقدم العصور وأنه مُسيَّر باللاشعور، أي باللاعقل، ففيم التمسُّك بالقديم بعد أن ظهر بطلانه؟ لكنني أعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذا الاتجاه مرجعه إلى اليأس من العقل أن يحقق لهم السعادة. إنه كلامٌ ما أظنه يُقال لو أن حضارتهم في مثل الأمل الذي كانوا يُحسُّونه في عصر التنوير — مثلًا — أو في النصف الأوَّل من القرن الماضي. إن الأسباب نفسها التي جَعلَت فلاسفة الحضارة عندهم (مثل شبنجلر وتوينبي) يقولون إن حضارة الغرب في طريقها إلى الأفول، هي نفسها الأسباب التي تدفع الأدباء إلى الانتكاس إلى كهوف اللامعقول فرارًا من العقل.
وأعتقد كذلك أننا لسنا في مثل هذه الظروف نفسها؛ فهنالك نسبةٌ عكسيةٌ بين خيبة رجائهم وازدهار الرجاء عندنا؛ لأن ما قد خيَّب رجائهم هو بعينه الذي أفسح أمامنا الأمل. هم يفقدون ما يملكون ونحن نملك ما كُنَّا نفقد! هم شبعوا «عقلًا» و«علمًا»، ونحن نعبُّ الرشفة الأولى (وأقصد في حاضرنا مهما يكن من أمر ماضينا) فما أظن أن ما يُلقي الصدى في أنفسهم هو ما يلقي الصدى في أنفسنا؛ لأن الحالة النفسية مختلفة هناك عنها هنا. على أن إيماني شديدٌ بأن اللامعقول حتى وإن وجد رواجًا مؤقتًا هناك، فهو إلى زوالٍ سريع؛ لأنه يفقد سبب الخلود الذي لا سبب سواه وهو أن يكون «العقل» — أي القيد بالهدف وطريقة السير إليه — هو أداة الخلق أوَّلًا، ومعيار النقد ثانيًا.
إنني لأعترف بأنني تمتَّعتُ أيما متعة بمسرحية توفيق الحكيم الجديدة «يا طالع الشجرة»، لكنها كانت متعة المسحور.