هيكل البناء
لقد نجح التعليم — إلى درجةٍ ما — في تغيير مواقع الأفراد، الذين أُتيحت لهم فرص الحصول عليه، لكنه — فيما يبدو — لم ينجح بنفس الدرجة في تغيير مواقع المجتمع، ودفعه على طريق التنمية الشاملة.
ولو أردنا أن نُجسِّد المعنى المقصود في صورةٍ محسوسة، لقلنا إننا كمن يسكن دارًا تداعت من القِدم جدرانها، وصَدِئَت فيها أنابيب المياه وصنابيرها، وتَشقَّقَت أبوابها ونوافذها، ثُمَّ أردنا الإصلاح، فأخذنا نُغيِّر مواضع بعض الأثاث، فما كان غرفةً للطعام جعلناه غرفةً للجلوس، ونقلنا بعض أدوات المطبخ إلى غرفة النوم، وبعض ما كان في الحمام إلى المطبخ، ثُمَّ نظرنا فإذا الدار لم تزل هي الدار:
يسيل الماء من الأنابيب والصنابير، ويدخل الغبار من الأبواب والنوافذ، ويتساقط من الجدران طلاؤها فتتعرى.
إننا خلال قرنٍ كاملٍ من الزمن قد لبثنا نُغيِّر «مواقع الأفراد» — كما تقول ورقة تطوير التعليم — فنجعل هذا طبيبًا بعد أن لم يكن، وذلك مهندسًا، والثالث مُدرِّسًا أو محاسبًا أو رجلًا من رجال القانون، فينتج عن ذلك — بالضرورة — حركة انتقال في عناصر الطبقات، فيعلو من لو تُرك بغير تعليم لكان أدنى، أو يدنو من مكان أعلى. وفضلًا عن هذا الضرب من تغيير المواقع بين الأفراد، فقد نتَجَت كذلك نتيجةٌ أخرى أهم وأعظم، وهي أن توافَرَت لدينا أعدادٌ ضخمةٌ من الكفايات الفنية، في الطب والهندسة والتعليم والاقتصاد والقانون، وغيرها من أبواب التخصُّص المهني، وهي حقيقة لا ينكرها إلا مكابرٌ جحود.
ومع ذلك التغيير، فقد لبث المجتمع على حاله، أو أوشك أن يكون. فكانت لنا هذه المفارقة العجيبة التي أشارت إليها ورقة التطوير؛ إذ وقع في حياتنا الفكرية والعملية ما لم يكن في الحساب أن يقع، وأعني أن فئة من الأفراد تغيرت إلى أعلى وإلى أمام، أمَّا المجتمع في جملته، فيوشك أن يكون الآن في الموقع الحضاري نفسه الذي كان فيه منذ مائة عام، فكيف حدث ذلك ولماذا؟
أمَّا كيف؟ فلعلنا في حاجة إلى مزيد من التوضيح، لنزداد فهمًا وتصورًا للمعنى المقصود. حين نقول (مع وزارة التعليم) إن أفرادًا كثيرين قد غيَّروا مواقعهم بسبب تعليمهم، لكن المجتمع في جملته — بما فيه هؤلاء الأفراد أنفسهم — لم يتغير إلا قليلًا، فيقول: إن أهم معيار نقيس به درجة التغيير الذي أصابه مجتمع، هو مدى مُشاركته في حضارة عصره وثقافته. وأظن أنه مهما اختلف الرأي في مميزات هذا العصر: ماذا عساها أن تكون؟ فثَمَّةَ اتفاقٌ شاملٌ على أن النظرة (العلمية) إلى شئون الحياة (المادية) هي من أهم ما ينطبع به العصر. وإذا قلنا النظرة العلمية فقد قلنا بالتالي اصطناع منهج العلم، الذي من أركانه الأساسية أن يكون المُعوَّل على شهادة الحواسِّ التي يتحقق لنا صوابها بالوسائل التي هي أبجدية العمل عند العلماء، وألَّا يكون المعول قَطُّ على أوهام الخرافة وضلالات الأحلام. فإذا وجدنا اليوم ما كان قائمًا بالأمس من تلك الأوهام أو الضلالات، قلنا إن المجتمع لم يتغير؛ لأنه لم يَخطُ في عصره إلا خَطو السُّلَحفاة.
كنت أستطيع أن أسوق مثلًا على تلك الأوهام أو الضلالات. قلنا إن منذ وقتٍ غيرِ بعيد، وهي أن رجلًا من «المُتعلِّمين» قد لحظ في بيته علاماتٍ من تحريك قطع الأثاث وتحطيم الأواني وما إلى ذلك، مما أيقن معه أنه لا بُدَّ أن تكون العفاريت في حالة حربٍ معه، فذهب يشكو إلى الشرطة! فهل حاولت الشرطة أن ترده إلى الصواب؟ لا، بل أيقَنَت معه بما أيقن، وأَخذَت تُفكِّر في خطة تقهر بها هؤلاء العفاريت! نعم كنت أستطيع أن أسوق أمثلة كهذا المثل، على مقدار ما يحيط بحياتنا من أوهام الخرافة، فتُبعدنا عن علمية النظر، لكنني أؤثر ذكر ما هو أهم وأدعى إلى القلق، وأعني قادة الفكر فينا وما ينشرونه.
ولستُ أريد أن أُسمِّي أحدًا بذاته، لكنني أقول على سبيل التعميم ما لست أشك في صوابه، ولا أتجنَّى به على أحد، وهو أن هؤلاء القادة الأعلام، ما يَنفكُّون يُشكِّكون الناس في العلم وقيمته، بل هم ما يَنفكُّون يبثون في رُوع الناس بأن الإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ عاجز، فإذا هو اعتمد على عقله في فهم أمور دنياه، فإنما يعتمد بذلك على قشَّةٍ واهنة. وإذا كان هذا هو ما يكتبونه ويُذيعونه يومًا بعد يوم، فماذا نتوقع من جمهور الناس إلا أن يغوصوا في الوهم إلى أذقانهم، فيظل المجتمع حيث هو، لا يخطو ليجتاز عتبة عصره، ليكون من أبنائه. وقف المجتمع حيث كان، «فلا اقتحم العقبة» التي تَحُول دون تحرُّره من أوهام نفسه، ليثق بنفسه وبعقله وبعلمه، إنسانًا كما أراد له الله أن يكون.
وأمَّا لماذا وقف المصري دون العقبة لا يقتحمها، فذلك لعلةٍ أراها واضحة، وهي أن «علماءنا» لا يريدون هم أنفسهم أن يُصدِّقوا علومهم، إلا وهم في معامل البحث العلمي، لكنهم إذا ما فرغوا من ذلك، تركوا «منهج» العلم في الأدراج، وانطلقوا مع الجمهور العريض فيما هو فيه. وكم من «عالمٍ» جامعيٍّ رأيتُه وهو في إجازة من منهج العلم، يؤكد لك أن الشيخ الفلاني قد مدَّ يده في الهواء فإذا هي ترتد إليه مليئة بما أراد من فاكهة أو مال أو من أي ممتنعٍ آخر من الأشياء، ويؤكد لك أن الشخص الفلاني قد استطاع أن يعبر نهر النيل ماشيًا بقدمَيه فوق الماء، «وبالأمارة» حدث هذا ساعة الفجر عند ضاحية إمبابة، وكان الرجل سمَّاكًا اضطر إلى عبور النهر ولم يملك الوسيلة، ففتح الله عليه لتقواه، وكان ما كان من مشيٍ على الماء! هكذا! قال لي — أنا كاتب هذه السطور — زميلٌ جامعيٌّ ذات يوم. نعم، إنك قد تسمع من رجال العلم أنفسهم في مجتمعنا العجب، تسمع منهم حكاياتٍ عن أبناء الجن وبناته، وعن أرواح الموتى كيف تُستحضَر، وعن أشباح القبور كيف تروح وتغدو، فماذا — إذن — يبقى لجمهور الناس من ثقة في العقل وفي العلم وفي الإرادة البشرية، وفي قدرة الإنسان على صنع المعجزات؟
وإنه ليُذهلك كما كان يذهلني، لمَا كنت أجده في خطاباتٍ تَرِد إليَّ ممن تَخرَّجوا في كليات علمية، كالطب والهندسة والعلوم، يُراجعني فيها أصحابها كلما دَعوتُ إلى التزام منطق العقل في الشئون العامة، محتجِّين دائمًا بأن العقل الإنساني محدودٌ عاجز. فيا سبحان الله! أليس هذا العقل المحدود العاجز هو نفسه الذي نهتدي به في المشروعات الصناعية وعلاج المرضى وبناء الجسور وغيرها؟ فلماذا لا يكون هو نفسه منطق العقل الذي نتخذه أداةً في حل مشكلاتنا السياسية والاجتماعية وما يدور في فلكها؟ إلَّا أن علة العلل هي أن مُتعلِّمِينا يَدرُسون العلوم في المدارس والجامعات، لكنهم يدرسونها بنصف إيمان.
ونسأل أنفسنا لماذا لم يتغير المجتمع برغم الجهود الجبارة التي تُبذَل في التعليم؟ (والسائل هو وزارة التعليم نفسها)، والجواب أمامي واضح، وهو أننا إذا علَّمنا من علَّمناهم، لم نحرص على أن يكون العلم مقرونًا بمنهجه؛ بحيث يصبح ذلك المنهج عمادًا للحياة العامة في شتى أوضاعها. ومن أجل هذه الثغرة البشعة في أسلوب التعليم، استطاع المُتعلِّم أن يفصل بين العلم ومنهجه، فنراه يحيا حياةً علميةً بمنهج العلم في مكان، ثُمَّ يحياها بغير منهج العلم في مكانٍ آخر، فينتج الوهم عندئذٍ وينتج التخريف؛ ولهذا لم يعُد عجيبًا أن ينطفئ العلم في مجتمعنا، فيصبح علمًا بغير نورٍ يهدي.
وإذا نحن تعمَّقنا الأمر إلى أعمق جذوره، وجدنا أن البناء الفكري الذي نقضي حياتنا بين جدرانه، قائم على هيكلٍ ذي ثلاث درجات، وموضع الإنسان منها في الدرجة الوسطى، تعلوه السماء في الدرجة ثُمَّ تتلوه الأرض، أو قُل الطبيعة بأسرها. ولقد خُيِّلَ للإنسان وهو في موضعه ذلك، أنه إذا اتجه إلى السماء بقلبه، كان عليه أن يُدير ظهره إلى الأرض وما عليها، وأمَّا إذا اختار أن يتجه بعنايته نحو الأرض، كان في ذلك إغفالٌ منه نحو السماء. وبعبارةٍ أخرى، فإن الإنسان لا يستطيع الشخوص ببصره نحو السماء ونحو الأرض في آن معًا، لأنه إمَّا أُولى وإمَّا آخرة، إمَّا دنيا وإمَّا دين، كأن الطرفَين ضدان لا يجتمعان في إنسان.
هكذا أُقيم لنا البناء الفكري في القرون الثلاثة المُظلِمة، التي سَبقَت مولد نهضتنا الحديثة. ونسوق مثلًا يُصوِّر لنا هذه النظرة العجيبة، ذلك الموقف حين أخذ العلماء الفرنسيون الذي صحبوا نابليون في حملته على مصر يعرضون أجهزتهم العلمية على جماعة من الشيوخ، مُستهدِفِين في ذلك أن يُلقوا الرَّوع في نفوسهم إذ هم يرون من العلم الجديد ما لم يكن لهم به عهد، ففاجأهم شيخ بسؤال: هل منكم من يستطيع أن يكون معنا هنا، وفي بلاد المغرب في آنٍ واحد؟ فدُهِش العلماء الفرنسيون للسؤال الذي يطلُب المحال، لكن الشيخ أنبأهم بأن أهل الخَطوة من المُؤمنِين يستطيعون ذلك، فأين — إذن — علم الفرنسيِّين من علم المُؤمنِين؟
هكذا كان الوهم الذي عشناه. وأخشى أن يكون هو نفسه الوهم الذي نعيشه اليوم، وهو أن للمُؤمنِين علمًا، وأن لغير المُؤمنِين علمًا آخر؛ فللأولين دين، وللآخرين دنيا، ولا اجتماع بين الطرفين، فكان ما كان من ازدواجيةٍ عند جمهورنا وعند علمائنا على السواء، وهي الازدواجية التي جَعلَت التعليم في مدارسنا بغير علم، أو جَعلَت العلم بغير منهج، أو جَعلَت التنوير بغير نور، فكُنَّا كأولئك الذين حُمِّلوا التوراة ثُمَّ لم يحملوها.
إن مجتمعنا ليتغير بالتعليم «كما تريد له وزارة التعليم في ورقة التطوير» إذا عالج المُتعلِّم مشكلات الحقل والمصنع وديوان الحكومة والشركة والمؤسسة والبيت وكل منحًى من مناحي الحياة بالطريقة ذاتها التي وجدها مُتمثلةً في العلوم كما درسها في المدرسة أو في الجامعة، أعني أن يتخرج المُتعلِّم وفي رأسه «منهجٌ» علميٌّ يلتزمه في العلم وفي غير العلم من شئون دنياه.
وإن مجتمعنا ليتغير مع ازدياد عدد المُتعلمِين، إذا ما أخرجنا المتعلم وقد آمن بأن العمل الجاد المنتج عبادة، وليس هو بالمُعلِّم المُؤمن المُتعبِّد، إذا لم يجعل من علمه أداةً لإسعاد الناس. واختصارًا فإن المجتمع يتغير على أيدي مُتعلمِيه، إذا استطاعت المدارس والجامعات أن تُعدِّل من هيكل البناء الفكري الذي ورثناه من مرحلة الظلام؛ بحيث ترُدُّنا إلى ما كانت عليه الحال عند أسلافنا إبَّان عزهم. وعندئذٍ يجد المتعلم أن عبادة ربه تتضمن النظر الفاحص في الأرض، وأن العلم والعمل به عبادة يقتضيها الإيمان بالدِّين.