قُبيل ثورة يوليو ١٩٥٢
لم يكن قد بقي على ثورة يوليو ١٩٥٢م إلا عامان وبعض العام، حين أَوكلَتني لجنة التأليف والترجمة والنشر — وكنت عضوًا فيها — أن أنوب عنها في الإشراف على مجلَّة الثقافة، التي كانت تُصدرها في ذلك الحين. وإني لأستعرض الآن بعض ما كنت أكتبه يومئذٍ، وما كان يكتبه غيري، فأرى كيف كانت صدورنا تغلي بما كان يُحيط بنا من فساد، مما كان كافيًا لمن يستطيع قراءة الأحداث، أن يُوقن بأن ثورة الشعب كانت — يومها — قاب قوسٍ واحد من الوقوع.
أَحَسَّ الكاتب بالظلم الفادح ينزل على الناس أشكالًا وألوانًا، فصاغ هذه الحقيقة في صورة غلامٍ صغير، وقد سمع رجلًا يصيح في الطريق بكلمة «ظلم»؛ فلأمرٍ ما، رَسخَت الكلمة برنينها في سمعه، فلما أصبح صباح اليوم التالي، رُوِّعت أم الغلام حين وَجدَته قد ملأ أركان الدار بكلمة «ظلم» مكتوبةٍ بالطباشير على المقاعد والموائد والجدران، فتَهدَّدَته أمه بالعقاب إذا عاد إلى مِثل هذا العبث وطَفِقَت تمسح الظلم من بينها بخرقةٍ بالية.
لكنه لم يكن قد مضى بعد ذلك يومٌ واحد، حين جاء الجيران يشكون الغلام لأبوَيه؛ لأنه تسلل إلى دورهم، وملأ لهم الدنيا بكملة «ظلم» يكتبها هذه المرة بقطعةٍ من الفحم، لا يَسهُل محوها كما سهُل محو الطباشير. وعُوقب الغلام على فعلته، لكنه بعد يومٍ آخر، وسَّع الدائرة إلى حيث كانت الدكاكين، وكان قد ظفِر بوعاءٍ فيه طِلاء، فراح يُغافل الناس ويكتب حيثما مَكَّنَته الفرصة، كلمة «ظلم» بطلاءٍ لا يُمحى. وزِيد في عقابه من أبوَيه، لكنه لم يرتدع. ولبِث هادئًا بضعة أيام، ثُمَّ كانت بعدها الطامة؛ لأن الغلام هذه المرة، قصد إلى دار الحكومة كانت على مقربةٍ من مسكنه مع أبوَيه، وحصل من حيث لا يدري أحدٌ على مِبراة، حفَر بها الكلمة نفسها على مداخل تلك الدار. وتدخَّل الشرطي، ونُودي الوالد، وعُرِضَ الغلام على طبيب. ونُصِحَ الوالد أن يصحب ولده المريض إلى الشاطئ لعله يهدأ، وفعل ما نُصِحَ به، لكن دهشة الوالد كانت على أَشدِّها، حين استمع إلى عجلات القطار فوق القضبان، فإذا بها وكأنها تقول: ظلم، ظلم، ظلم …
هذه صورة، وفي صورةٍ ثانية، صبَّ الكاتب سخريةً هي أمَرُّ السخرية بمن كانوا يلوكون في أفواههم كلمة «الشعب» ومصالح الشعب، حتى إذا ما انكشفَت له حقيقة الأمر، وجد هؤلاء السادة في وادٍ، وجموع الشعب الحقيقي في وادٍ آخر. وفي سبيل تصويره لهذه المفارقة، صوَّر قريةً على قِمة جبلٍ يرتفع برأسه فوق مستوى السحاب؛ فلئن اعتاد أهل الأرض أن ينظروا إلى السحاب مُنسابًا فوق رءوسهم، فأهل تلك القرية العالية ينظُرون إلى السحاب تحت أقدامهم. وكانت طبقات السحاب دائمًا من الكثافة بحيث يتعذَّر على ساكن القِمة أن يرى شيئًا مما يقع في أسفل الجبل. ولقد أُتيح للكاتب الرحَّالة أن يقضي يومًا في قرية السادة، فإذا هي هادئة الطرقات، ومعظم دورها مُغلَق النوافذ والأبواب، فلا يدري السائر في الطريق من بواطنها لا قليلًا ولا كثيرًا، لكن صاحبنا الكاتب الرحَّالة لم يلبث أن وقع في تلك القرية على نشاطٍ عجيب وراء الجُدران؛ فما إن فُتِحَت له الأبواب، حتى جاءته من الداخل أصواتٌ كالرعود، وضجةٌ لا يكاد يُميِّز فيها بين متحدث ومتحدث، لكن كلمة «الشعب» لم يُخطئها سمعه وسط الضجيج المختلط؛ لأنها كانت أكثر الكلمات دورانًا على ألسنة المُتكلمِين. وعجب الكاتب الرحالة بينه وبين نفسه: أي شعبٍ يا ترى؟ إنه لم يَرَ في طرق القرية شعبًا، وكان كل ما رآه بيوتًا نظيفةً جميلةً، وعددًا قليلًا من المارَّة، اتسموا جميعًا ببدانة الأجسام، واسترخاء الأطراف، وبطء الحركة، فلم يَسَع كاتبَنا الرحالة إلا أن يسأل مَن وَقَفَ إلى جانبه: أين الشعب هنا؟ فأجابه في استنكارٍ قائلًا: شعب؟ ليس الشعب هنا على القمة؟ إنه هناك على السفح عند أسفل الجبل.
وهبط كاتبنا الرحالة إلى السفح في طريق عودته، فكان أَوَّلَ من لَقِيه من الناس، امرأةٌ عجوز مُتهدِّمة جَلسَت على جانب الطريق، وأمامها صندوقٌ خشبي صغير، تناثَرَت على ظهره سبعُ قِطعٍ من الحلوى، تُرى كم ملِّيمًا تربح هذه المسكينة في يومها؟ أين تسكن؟ وعلى أي كَومةٍ من التراب والحصى تضع جنبها سوادَ الليل؟ ماذا تأكل؟ وكيف تُغطِّي جسدها إذا ما اشتد برد الشتاء؟ من ذا يجيبها إذا تأوَّهَت من ألم، كما شاء الله لعباده المرضى أن يتأَوَّهوا كلما اشتد بهم الألم؟
تَقدَّم صاحبنا من بائعة الحلوى: بكم تبيعين القطعة يا أمي؟ فأجابته بصوتٍ مُرتعِش: القطعة بمليم، فقال لها: سأشتري حلواكِ كلَّها لأولادي! فأخذت المسكينة تدعو له ولأولاده بطول البقاء، فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشًا كاملًا ثمنًا لحلواها — وحقُّها سبعة مليمات — لا تَنسَي يا أمي أن تطلبي من الله في دعائك، رحمةً بأولئك الذين يَرعَون مصالحكِ هناك فوق قمة الجبل؛ فلقد رأيتُهم وهو يبذلون كل جهدهم في سبيلك؛ إذ رأيتُهم وهم يبحثون لك عن أفضل دستورٍ يلائمك من بين دساتير أوروبا، ورأيتهم وهم يتجادلون من أجلكِ في هل يكون الفن للفن أو يكون الفن للمنفعة؟ ورأيتهم وهم يُهيِّئون لك مُصطافًا على شاطئ البحر، تلوذين به من قيظ الصيف …
تلكما — إذن — صورتان مما كُنَّا نكتُبه قُبَيل الثورة بقليل: صورة الغلام الذي أخذ يكتب الظلم على قطع الأثاث والجدران والأبواب، يكتبها بالطباشير مرة، وبالفحم مرة، وبالطلاء ثالثة ويحفرها بمِبراته رابعة، وصورة السادة الذين تربَّعوا فوق قمة الجبل يبحثون عن مصالح الشعب، والشعب هناك عند أسفل الجبل، يتضوَّر من جوع، ويتأوَّه من ألم. وها هي ذي صورةٌ ثالثة نُضيفها؛ فهذا صبي في العاشرة رآه الكاتب وقد وقف أمام بائع الحلوى، ليلة الاحتفال بالمَولِد النبوي الشريف. وقف الصبي على بُعد ثلاثة أمتارٍ أو نحوها، مُثبِّتًا ناظرَيه في عروسٍ من الحلوى. والأعجَب من هذا أن راحت العروس الحلوة بدورها تنظر إليه، لا تزيح عنه البصر.
كان الصبي ينظر إلى معشوقته وعلى فمه ابتسامةٌ خفيفة كلها هُيام، وكانت العروس الحلوة بدورها تبتسم له في حنان، لكنَّ أَوجُه الخلاف بين العاشقَين الصامتَين كانت فسيحة المدى: إنه صبيٌّ فقير وقف هناك في هلاهيله رغم البرد القارس، وقف مرتعش الأطراف تُريد عضلاته الصغيرة أن يَزحَم بعضها بعضًا ليُدفئ بعضها بعضًا، ورآه الكاتب يرفع إحدى قدمَيه، فيقف بها على أطراف الأصابع، ونظر إلى القدم المرفوعة، فإذا آثار جرحٍ كبير في عَقِبها، تعرفه جرحًا بحواشيه القرمزية المنتفخة، وأمَّا فجوة الجرح نفسه فقد مُلئَت بالطين الجاف، كأنه بركانٌ ثار وأرسل الحُمَم، ثُمَّ خمد مُؤقتًا، ليثور من جديد بعد حين، لكن الصبي الولهان ظل واقفًا يرتعش ويرقب عروسه المشتهاة في شُرفتها العالية. إنها بادية الثراء، لبِسَت ثوبًا نظيفًا جديدًا لامعًا، عليه الترتر اللامع.
شَعَرُ الصبي مُلبَّد فوق رأسه، خشِنٌ بأوساخه، غليظ، وشعر العروس ممشَّط مُرسَلٌ ناعم. جسد الصبي مُلطَّع ببُقعٍ بيضاء من ملح، وجسد العروس كله في حلاوة السكر وأشهى …
طاخ! نَزلَت صفعة الشرطي على الصبي إذ هو شاخص ببصره إلى عروسه يحلم! طاخ! صَدمَت ركلة الشرطي قدَم الصبي الجريحة، فجرى المسكين صارخًا من الألم في صوتٍ يشبه عُواء كلبٍ جريح، وظلَّ يَحجل على قدمٍ واحدة، حتى أوى إلى فجوة بابٍ مُغلَق خلف مقصورة الحلوى، وجلس هناك في الظلام باكيًا، يَهزُّ جِذعه إلى خلف وإلى أمام، مُمسِكًا بقدمه الجريحة بين كفَّيه.
أمثال هذه الصور هي ما جرى به القلم في مجلة الثقافة التي أَشرفتُ على تحريرها نحو ثلاثة أعوام، قُبيل ثورة يوليو سنة ١٩٥٢م.