عيون تنظر ولا ترى
تُرى كم كُنتُ أعلم عن دنياي لو أن القائمِين على تربيتي قد علَّموني كيف أرى؟ فما عرفتُ إلَّا منذ قريب أن العينَين قد تكونان مفتوحتَين شاخصتَين، ولا تكفلان لصاحبهما رؤيةً مليئةً خصبةً مترعة. أقول إني ما عَرفتُ ذلك حق المعرفة إلا حين زُرتُ صديقًا فنَّانًا يعيش من داره البعيدة الفريدة في خلوةٍ هي أشبهُ شيء بصوامع الزاهدِين. زُرت ذلك الصديق الفنان في محرابه النائي عن ضَجة المدينة وصخبها، فوجَدتُه قد فرغ لتوه من صورة لجذع نخلة قائمٍ أمام داره، ونظرتُ إلى جذع النخلة فلم أرَ فيه إلا جذعًا أجرد، ثُمَّ حوَّلت نظري إلى الصورة فإذا هي عالمٌ غزيرٌ بما فيه من تفصيلاتٍ ودقائق، وكلما ركَّزتُ بصري في أجزائها راعني هذا التناغُم العجيب بين خيوط الألياف كأنما هي ديباجةٌ نسجَتها أصابعُ مسحورة. يا إلهي! أتكون هذه الأنغام كلها في ذلك الجزع المبتور العادي، الذي لو نظرتُ إليه وحدي — بغير هداية الفنان إلى محتواه — لما رأيتُ فيه إلَّا عقمًا وجدبًا؟ وكأنما أراد صديقي أن يزيدني عجبًا على عجب، فجاءني بصورةٍ أخرى لقوقعةٍ مما نركله بأطراف أقدامنا إذ نغوص بها في رمل الشاطئ، ونظرتُ فإذا في القوقعة الخالية الخاوية ما في جذع النخلة الجديب الأبتر؛ دقائقُ وتفصيلاتٌ الله أعلم بمداها والفنان أبصر بانسجامها واتساقها … تلك هي الطبيعة في خصوبتها وثرائها، لو أن لنا عيونًا تَنظُر لترى.
وذَكَرتُ لنفسي عندئذٍ أشياءَ كثيرةً مما كُنتُ قرأتُه ولم أفهمه كل الفهم، فذكرت الأديب الإنجليزي تشسترتون — وكان يقيم في بلده باترسي — إذ زاره صديقٌ فوجده على أُهبة السفر، فسأله: إلى أين الرحيل؟ فأجابه الأديب: إلى باترسي! فقال الزائر ضاحكًا: لكنك في باترسي. فأجابه الأديب: نعم، لكن «الإلف» قد أعماني عن رؤية تفصيلاتها؛ ولذلك أنوي أن أسافر إليها مارًّا بباريس وروما وبرلين؛ فبالمقارنة تتفتح عيناي لما قد عَمِيَت عن رؤيته من روائع بلدي الذي أعيش فيه وكأني لا أراه … فليتني — وأنا أُقيم في القاهرة — أُسافر إلى القاهرة مارًّا بهذه وتلك من أجزاء الأرض، على نحو ما سافر تشسترتون من باترسي إلى باترسي ليراها على حقيقتها.
وكذلك ذَكرتُ فيما ذَكرتُ قصةً قرأتها عن فنانٍ إيطاليٍّ كان صدره يضيق كلما مَرَّ في الأحياء المتواضعة من بلده؛ إذ لم تكن تقع عيناه هناك إلا على بشاعة هنا وفقر هناك، ثُمَّ خطر له ذات يوم أن ينظر في تلك الأحياء بعين الفنان التي تستخرج الصور، فهالته خصوبةٌ لم يتوقعها، في كل خطوةٍ يخطوها صورةٌ يثبتها على اللوحة فإذا هي آيةٌ من الروائع. وإنه لكثيرٌ ما يَعِن لي أن أستفيد بهذا الدرس في حدود قدرتي، فأسير في شوارع القاهرة ناظرًا إليها بالعين التي تستخرج الصور التي تستوقف النظر، فعندئذٍ أرى كنزًا نفيسًا مما يزخر به هذا البلد من نفائس، حتى الأشياء التي قد تكون مِنَّا موضع النقد حينًا بعد حين، تنظر إليها بعينٍ تشبه عين الفنان، فإذا هي باعثةٌ على النشوة الجمالية التي ليس بعدها نشوة: هذه العربة الصغيرة يجرها حمارٌ ضئيل، وقد حَملَت هرمًا من البطيخ الأخضر الزاهي، وجلس على البطيخ طفلٌ صغير، بينما سار أبوه ممسكًا بزمام الحمار، لافتًا رأسه إلى الخلف يبادل وليده الضحكات. هذه المرأة التي حَملَت على رأسها حملًا كبيرًا من أعواد الذرة الجافَّة، حتى لقد اختفى رأسها كله وجذعها في جوف الأعواد ولم يظهر منها إلا أسفل جلبابها الأسود؛ ماذا أقول؟ إنك لو نَظرتَ بالعين التي ترى، إذن لرأيتَ الأرض قد تَبدَّلَت غير الأرض، ووَجَدتَ في كل شيء وفي كل حيٍّ خصوبةً وجمالًا.