ملائكة بغير أجنحة
لَبِثَت أزاميلُ النحَّاتين عصورًا طويلةً تُصوِّر الملائكة على هيئة الطفولة المُجنحة. ولم يكن النحاتون عندئذٍ يُصوِّرون بتماثيلهم أشكال الملائكة بقَدْر ما كانوا يُجسِّدون مُثُلًا عليا كانت قائمةً في عصورهم. فمن هذه المُثُل العليا تجتمع شفافية الطفولة وبراءتها مع طموحٍ يرقى بصاحبه إلى عنان السماء على أجنحةٍ كأجنحة الطير، إلا أنها بالبداهة أجنحة الخيال الطامح؛ فلقد قيل إن الإنسان في سلسلة الكائنات إنما يقع حلقةً وسطى بين كائناتٍ عاقلةٍ بغير أجساد من ناحية، وكائناتٍ حيوانيةٍ بغير عقول من ناحيةٍ أخرى، وهو وحده الذي يشارك الأعلى بعقله ويشارك الأدنى بحيوانية جسده؛ ولهذا اختَلفَت وجهة النظر إليه: أنجعله أدنى الكائنات العاقلة منزلةً؟ أم نجعله أرقى الكائنات الحيوانية؟ … وكأنما أراد النحَّاتون الأقدمون أن يَعلُوا بالإنسان إلى الطبقة الأولى ويُخلِّصوه من الزمرة الثانية، فكان منهم هذا التجسيد لشفافية الطفل مقرونةً بخفة الطير.
حتى جاءنا فنانٌ معاصرٌ فنحت تمثالًا من طرازٍ جديد، يُشير به إلى تماثيل الملائكة التقليدية، ولكنه يتحرر من قيود التقليد فيها، ليبدع صورةً جديدةً قيل إنها تجسيد للمُثُل العليا في عصرنا هذا؛ فقد استبدل بالطفل التقليدي غلامًا، ثُمَّ بتر الجناحَين، ولم يكد يعرض تمثاله هذا حتى تلقَّفَته المصانع لترمز به إلى روح العصر الجديد، فتراه — مثلًا — قائمًا على مقدمات السيارات الحديثة، ليطير مع السيارة، أو لتطير معه السيارة، ولكنه طيران «على الأرض»، وهنا أكبر الخلاف بين الجديد والقديم.
هذا هو نموذج الشباب الطامح في منتصف القرن العشرين. إنه يغامر بخياله في صناعة أو تجارة أو ما شاء أن يغامر به فيه، على أن يجيء الخيال مقيَّدًا بما يصح أن يلتمس طريقه إلى الواقع الملموس؛ فلم يعد يُجديه اليوم أن يبرأ من طبيعة شبابه الناضج ليرتد إلى براءة الطفولة التي هي براءة الصفحة الخالية من كل ترقيم، ألا ما أبعدَ الفَرقَ بين طموحٍ وطموح! ما أَبعدَ الفَرقَ بين طامحٍ يطير بخياله وهو مُقعَد، وطامحٍ يشق بخياله هذه الأرض ويُحلِّق به في أجواء الفضاء أو يغوص في أغوار الماء، فإذا هذا الخيال المُلجَم بواقعية التطبيق قد انقلب قطارًا منسابًا على الأرض، أو صاروخًا مارقًا في السماء، أو غواصةً تَنفُذ من تحت أطباق الجليد … ذلك هو روح العصر كما صَوَّره «بروجل» في تمثاله الذي يُطلقون عليه «أكاروس».