الفكر المغامر
وما دمنا بصدد مُغامَرات الطامحِين في صورتَيها القديمة والحديثة، فإنَّا لنذكُر عبارةً كبيرة الدلالة قالها «مل» وهو يكتب لنفسه سيرة حياته؛ إذ قال: «قد تنعكس الغرفة الفسيحة على أفق العقل فتفسحه.» قال هذا تعليقًا على ميله الشخصي إلى الغرفات الفسيحة، وضيقه بالغرفات الضيقة. ويُخيَّلُ إليَّ أنها عبارةٌ خصبةٌ مليئةٌ بالمعاني؛ فليس يقتصر الأمر — في رأيي — على غرفةٍ تنفسح أو تضيق فينفسح معها أفق التفكير أو يضيق، بل إن الأمر ليُجاوز هذا إلى ما هو أهم وأوسع: أيمكن للإنسان أن ينتج فكرًا نافعًا وهو حبيس، مهما تكن «الزنزانة» التي حُبس فيها؟ فقد تكون «زنزانته» هي التقاليد التي ربما كانت نافعةً لعصرها ولم تعُد لعصرنا، وقد تكون هي التعصُّب الذي يَحصُر ناظرَيه في خطٍّ واحد، مع أن أرض الله واسعةُ الفضاء مليئةٌ بخطوطها، ثُمَّ قد تكون «زنزانته» العاتية الجبارة — كما كانت «زنزانتي» — هي الحذَر خشية الزلَل.
نعم لك أن تَحذَر وتُحاذِر، على شرط ألَّا يكون ذلك على حساب الحياة الخصبة المليئة المنتجة؛ فبغير التجارب لا حياة، وبغير التعرُّض للخطأ لا تجارب. أتدري كيف كانت خطوة الانتقال في الفكر التي انتقل بها العالم مما يسمونه العصور الوسطى إلى ما يسمونه العصور الحديثة؟ كانت هي هذه؛ فقد كان طابع التفكير في العصور الوسطى أن يجيء محكمًا في سلامة استدلاله؛ بحيث لا يجوز لمفكر أن يقول شيئًا لم يكن موجودًا قبل ذلك في مقدماتٍ موروثة، وبهذا يضمن سلامة الطريق وسداد الخُطى … وهذا صحيح، ولكنه يضمن كذلك لصاحب هذا التفكير أن يظل مغلقًا في المعروف، بغير أمل في أن ينطلق إلى معرفةٍ جديدة؛ فلا سبيل إلى معرفةٍ جديدةٍ بالعالم إلا إذا انطَلَقتَ تبحث عن جديدٍ لم يكن معلومًا مذكورًا. لكن هذا البحث عن الجديد هو نفسه الباب المفتوح الذي يدخل منه الخطأ كما يدخل منه الصواب … فلا عليك من قليلٍ من خطأ إذا امتزج بكثيرٍ من صواب، هكذا قال رواد النهضة، فكان قولهم فاتحة عصرٍ فكريٍّ جديد … ولعل خَيرَ ما يُمثِّل عصرًا كهذا هي الرحلة التي قام بها كولمبس قبيل ذلك العصر نفسه؛ فهي رحلة تفتح النوافذ لكشف جديد، لكنها في الوقت نفسه تفتحها لخطرٍ قد يقضي على الكاشفِين … إنها المغامرة في الفكر وفي العمل، هي التي صنعت لنا الدنيا كما نراها … كانت الآلهة — في الأسطورة اليونانية — تريد أن تحتفظ لنفسها بالنار والنور، بحرية العمل وحرية الفكر، ولو رضي الناس وآثروا العافية على القتال لظلوا حتى اليوم في دياجير الكهوف، لكون «برومثيوس» أراد أن يقبس لنفسه قبسًا، ولقي في سبيل مغامرته أحر العذاب، غير أنه وجد العذاب أرخص مما يدفعه المغامر من ثمنٍ ليضيء الطريق لنفسه وللناس.