النفوس وما تخفي
أدار كاتبٌ مسرحيٌّ إسبانيٌّ في القرن السابع عشر هو «دي جيفارا» إحدى مسرحياته حول فكرةٍ طريفة، استعارها منه الأديب الفرنسي «ليساج» في القرن الثامن عشر، ليجعلها مدارًا لمسرحيته «الشيطان الأعرج»، مؤدَّاها أن عالمًا من علماء الفلك قد استطاع أن يأسر ماردًا في قمقم، حتى جاءه طالبٌ شاب فأخرجه من أَسْره، فحمله المارد إلى برج، وعاونه بقوة الشياطين على أن سلط بصره على أسقُف المنازل فإذا هي تنزاح عن مواضعها، بحيث ينظر الطالب الشاب إلى ما يدور تحتها، فكأنما انكشفت له عوالمُ فيها من العجائب ما لا رأت عين ولا سمِعَت أذن، وهاله الفرق الشاسع بين الناس فيما يُظهرون والناس فيما يُخفون ويُبطنون.
ولقد استَعرتُ بدوري هذه الفكرة «الشيطانية» لأُزيح «أسقف المنازل»، بل لأُزيح جدران الجماجم عن رءوسها، وأُعرِّي جلود الأجسام عن نفوشها. واقتَصرتُ في ذلك أول الأمر على فئةٍ قليلة من الناس، هم أصحاب القلم، فيا بُعد المسألة بين ما يُضمرون وما يكتبون فَرقٌ بعيد، بُعد ما بين الأرض والسماء — ما بين يكتبه الكاتب إذا رضي وما يكتبه هذا الكاتب نفسه إذا سخط. واستَرسلتُ مع نفسي في التفكير طوال عصور التاريخ الفكري حتى انتهيتُ إلى هذا السؤال: تُرى كم كان يتغير وجه التاريخ لو رضي أصحاب القلم ونَزلَت الطمأنينة على نفوسهم؟ فلو كانت أحداث التاريخ الكبرى قد حَدثَت بعد أن مَهَّدَت لها أقلام الكاتبِين، فهل كانت هذه الأحداث نفسها تحدُث لو كان أصحاب الأقلام قد وجدوا في حياتهم اللقمة السائغة والفِراش الوثير والمنزلة العالية والكلمة المسموعة؟
أغلب الظن أن صاحب القلم — في حالاتٍ كثيرةٍ جِدًّا — يسير بقلمه في هذا الاتجاه أو ذلك، تبعًا لما قد حُرم منه أو أُغدق عليه من مكانةٍ في عصره. ولعل نابليون لم يَبعُد كثيرًا عن الصواب حين قال: «إن الكبرياء الجريحة — كبرياء أصحاب الفكر الذين مَهَّدوا بأقلامهم لقيام الثورة الفرنسية — هي التي صَنعَت تلك الثورة، ولو وجد هؤلاء من المكانة لأنفسهم ما كانوا يشتهون، لدارت أقلامهم على وجهٍ آخر.» وفي هذا الصدد نفسه يقول «ثوروا»: «عقيدتي هي أن ما يُحزن أصحاب القلم ليس هو عطفهم على المظلوم والمحروم، بقَدْر ما هو ألم شخصي يحزُّ في نفوسهم من إهمال الناس لهم، ولو وصفوهم حيث يريدون لأنفسهم، وأغدقوا عليهم العطاء، لم يعُد المظلوم في أعينهم مظلومًا ولا المحروم محرومًا.»
ونصيحتي للقارئ إذا ما تناول كتابًا يحمل في جوفه فكرةً لصاحبه، قبل أن يسأل: من كَتبَ هذا الكتاب وماذا كَتَب؟ أن يسأل: لماذا كُتب ما قد كُتب؟