كواهل العظماء

للعظماء كواهلُ قويةٌ عريضةٌ تَتحمَّل تبِعات أعمالهم العظيمة. إن صاحب الرسالة العظيمة الذي يجهر في قومه بالحق — أو بما يعتقد أنه الحق — قمينٌ أن يثير الكراهية والغضب في نفوس أصحاب السلطان الذين يريدون لسلطانهم الدوام والثبات؛ ولهذا قلَّ أن يمضي صاحب الرسالة العظيمة في نشر رسالته دون أن يتعقبه المتعقبون بالوقيعة والأذى، حتى ينتهي أمره إلى محاكمةٍ تُعرَف نتيجتها قبل البدء فيها، وعندئذٍ يلمع جوهره النفيس، بدل أن تنطفئ شعلته كما أُريد لها أن تنطفئ. ودونك محاكمات العظماء فاقرأها لتسمع بأذنَيك ما ينطق به هؤلاء في لحظات محنتهم:

كان غاندي يعتنق مذهبًا يُحرِّم قتل الكائنات الحية بكافة أنواعها؛ ولذلك فعندما وجَّه الدعوة إلى بنِي وطنه أن يقفوا من الحكومة الهندية «الإنجليزية» موقف العصيان المدني، كان حريصًا كل الحرص ألَّا يلجأ الناس في عصيانهم إلى العنف وسفك الدماء، ولكن الناس عندما استجابوا لدعوته لم يستطيعوا التحكُّم في أنفسهم على النحو الذي أراده لهم زعيمهم، ففتكوا وذبحوا وأراقوا من الدماء ما أراقوا … ورغم براءة غاندي الواضحة، أُلقيَ عليه القبض، ووُجِّهَت إليه تهمة إثارة الناس، حتى اقترفوا ما اقترفوا من ألوان العنف في ثورة ١٩٢١م، فبماذا أجاب غاندي؟ هل حاول التنصُّل والتماس النجاة؟ كلَّا، بل حمل التبِعة على كاهله القوي بروحه وإن لم يكن القوي بالعَظْم والعضَل، وأجاب النائب العام بعبارة تستحق الخلود؛ إذ قال: «إنني أؤيد النائب العام العلامة فيما ألقاه على كتفي من لومٍ بمناسبة الحوادث التي وَقعَت في بمباي ومدارس وشاروي وشورا؛ لأنني كلما فَكَّرتُ في هذه الحوادث تفكيرًا عميقًا وتَدبَّرتُ أمرها ليلةً بعد ليلة، تَبيَّن لي أنه مُحالٌ عليَّ التخلِّي عن هذه الجرائم الشنعاء. إن النائب العام العلامة على حقٍّ لا شبهة فيه حين يقول إنني باعتباري رجلًا مسئولًا، وباعتباري كذلك رجلًا قد ظفِر بقسطٍ من التعليم لا بأس به، كان ينبغي عليَّ أن أعرف النتائج التي تَترتَّب على كل فعلٍ من أفعالي. نعم فلقد كنت أعلم أنني ألعب بالنار، وأَقدَمتُ على المغامرة، ولو أُطلق سراحي لأَعدتُ من جديدٍ ما فعلته …

لقد أَردتُ أن أتجنَّب العنف، وما زلتُ أريد اجتناب العنف؛ فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني، وهو كذلك المادة الأخيرة من مواد عقيدتي، لكن لم يكن لي بُدٌّ من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضررًا يستحيل إصلاحه، وإمَّا أن أتعرَّض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورةً غاضبةً هوجاءَ ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شَفتَي. إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحيانًا، وإني لآسَفُ لهذا أسفًا شديدًا؛ ولذلك فإني أقف هنا لِأتقبَّل — لا أَخَفَّ ما تفرضونه من عقوبة، بل لأتقبل أقسى ما تُنزلونه بي من عِقاب — إنني لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تُخفِّفوا عني العِقاب؛ فقد فعلتُ ما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المُواطِن أداؤه.»

وأحسب قارئي على علمٍ بموقف سقراط في محاكمته التي انتهت بموته؛ إذ طُلب إليه أن يسترحم قضاته، لكنه لم يزد إلَّا إصرارًا على رسالته، وإلَّا إباءً بأن يقف من القضاة موقف الضعيف الضارع، وقال فيما قاله:

إذا كان الرجل خَيِّرًا في ناحية من نواحيه، فلا ينبغي له أن يتدبر أمر حياته أو موته، ولا يجوز له أن يهتم إلا بأمرٍ واحد، وذلك أن يرى هل هو فيما يعمل مُخطئ أو مُصيب، وهل يقدم في حياته خيرًا أو يقدم شرًّا. أترى — إذن — أن الأبطال الذين سقطوا في طروادة لم يُحسنوا صنعًا؟ فذلك ابن ثيتسي الذي استصغر الخطر وازدراه حينما قرنه بما يَثلِم الشرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤